«كما قال الشاعر» تركيب المبهم على العادي
يعد الفيلم التسجيلي عن حياة الشاعر محمود درويش «كما قال الشاعر» للمخرج الفلسطيني نصري حجاج ذا بعد تعبيري رمزي. وقد فاجأنا المخرج بالتحولات البصرية الرمزية التي يحملها مضمون شريطه، وكان ذلك واضحا من خلال الأماكن والمدن التي صور بها كالبروة مكان ميلاد الشاعر، أو مركز خليل السكاكيني، أو مكتبه الأخير في رام الله، أو غرفته الأخيرة في فرنسا في فندق ماديسون، أو شقته لآخر مرة في عمان.. إلخ، وربما هذا ما حمل معه المفارقة والخط الفاصل ما بين التعبير من جهة، والرمز من الجهة الأخرى، إذ يراودك الشعور للوهلة الأولى أنك تعيد ذاكرة المكان وكذلك اللحظات الأخيرة من حياة هذا الشاعر، وهذه التنقلات المفاجئة من مكان أخير لمحطة أخيرة، ألغى حياة ملأى بالتفوق والتفاعل الإنساني والجمالي كأثر الفراشات وزهر اللوز.. ربما لم ينجح المخرج في توفيق الحس البصري عبر التنقلات المفاجئة في الإطار (البرواز) المحدد للصورة، بما يعني أن هناك تكرارا رتيبا لشكل المقطع الصوري، يمكنه الاستغناء عن جزء كبير بدل تكرارها.
في إطار هذا الاختزال المرحلي من حياة الشاعر وعبر ما سبق ذكره، كان هناك عمق روحي منعكس في صورة الموت، تجاوز إشكالية الوجود التي خلقها درويش بشعره، وحب الحياة في أحيان أخرى، وبالرغم من ذلك كله استطاع صاحب «ظل الغياب» أن ينقذ فيلمه وينقذنا أيضا من العاطفة الشبحية تجاه الشاعر، اذ لم يحضر شكل محمود درويش الفيزيائي إطلاقا في الفيلم، وهذا بحد ذاته خلق موضوعية أكثر لمصلحة الفيلم، متحرراً من كاريزما محمود درويش الشاعر والإنسان. وأخذ في استحضار مخيلتنا ومورث شعر درويش فينا بالنهوض والحضور.
من خلال التأمل البصري، وربط المكان بموضوع الزمن للشاعر، وكذلك بالتخلص من استغلال أو استثمار محمود درويش بحضوره والدفع بعجلة التأثير للقيمة الزمانية والمكانية الخالصة ما بين الشاعر والحضور، نجد أن هناك شعوراً شفافاً يتجاوز الصورة النمطية من الفيلم التسجيلي إلى رؤية إخراجية لولبية تأخذك رويداً رويداً نحوها، ويلغي أثر المقارنة والمواربة للتجسد داخل المشهد منتظراً فانتازية معاصرة. وربما هذا ليس بالجديد أن تكون مثل هذه الحالة، ولكن الجديد هو تخليص المشهد البصري في الفيلم من الحركة الإنسانية والشعرية المنتمية للفنان ذاته، بل بدأت تأخذ بعد إنسانيا شبه ميثولوجي، واعتقاد راسخ لدى شريحة مهمة من شعراء العالم، استطاع المخرج أن يُشركهم بهذه العملية الإبداعية الإنسانية عامة والفلسطينية خاصة، وهذا يولد اعتقاداً ذهنياً بأثر محمود درويش حياً وميتاً.
في المشاهد المصورة، لا شاعر، ولا جمهور، ولا إضاءات أو كاميرات، سوى كاميرا المخرج تصور آثار المعارك والحروب الشعرية التي خلفها درويش بعده، ومازال يصدح ليس بالمكان فقط، وإنما داخلنا أيضا، وليتذكر كل شخص جملة ما أو قصيدة ما قالها هذا الشاعر.
من تركيبية الفيلم أيضا، هو الابتعاد عن الحرفية والتقليد في الأفلام التسجيلية، والتميز الإنساني رغم قلته في التصوير، لكنه استنتاج مؤكد في إعادة استحضاره ذهنياً من خلال المشاهد المصورة، وإعادة مسرحته تحت إضاءة مفتعلة أو مُتَخَيلة أيضاً، إن كان على مسارح مهمة في فرنسا أو اسبانيا أو رام الله أو بيروت أو دمشق... الخ، وارتباط هذه الأماكن بالبعد الوطني والقضية الفلسطينية المرتبطة بشخص محمود درويش ذاته، وتنقلاته لهذه الأماكن أو غرفته المفضلة، كل ذلك يعيد للمشاهد رؤية محمود درويش من زاوية أخرى، هي محمود الإنسان والشاعر الذي ينتمي للكون .
كان واضحا على الفيلم الذي قام بإخراجه وتمويل جزء منه المخرج نصري حجاج، الفلسطيني المقيم في بيروت، أكبر الأثر على إعادة الحيوية لتاريخ السينما الفلسطينية وإعادة بصيرتها لفترة أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، ليس لشيء إلا لأنه مخضرم وهو الذي كان أيضا مع منظمة التحرير، ومازال يحافظ على مبادئه الإنسانية والوطنية في البحث والإصرار لبناء مكوناته السينمائية بجهده الخاص، وبدعم مشتت كما هو الحال الطبيعي، لإعادة هيكلة الحضور السينمائي على الساحة العربية والعالمية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.