ضيعة ضايعة: النَّحت في السِّياسة
شكل الجزء الأول من «ضيعة ضايعة» علامة فارقة في تاريخ الكوميديا السورية، ولعل من أهم إنجازاته، النجاح في توظيف اللهجة المحلية في خدمة كوميديا الموقف، دون الوقوع في فخ التهريج بواسطة اللهجة، إضافة إلى إطلاق طاقات الممثلين، وإعادة الاعتبار للممثل ودوره في صناعة الدراما. ومع الجزء الثاني حقق صُنَّاع المسلسل نجاحاً آخر يحسب لهم، إذ جاء نقلة نوعية حقيقية إلى الأمام، ونجح في الانتقال إلى فضاءات أوسع، وفي تقديم رسائل أكثر عمقاً ونضجاً.
في ضيعتنا الضائعة نماذج للعديد من شرائح وفئات المجتمع السوري، شكلت علاقاتهم وحياتهم البسيطة البعيدة عن التطور التكنولوجي ووسائل الاتصالات الحديثة ممراً لصناعة أجمل المواقف الكوميدية في الجزء الأول، وفي الجزء الثاني بقيت الشخصيات بالملامح العامة نفسها، إلا أن ما تم تطويره بنجاح هو استخدام هذه الشخصيات في نقل الرسائل الاجتماعية والسياسية، وتوظيف العلاقات بينها في تقديم معالجة وتحليل للعديد من الأزمات التي يعيشها المجتمع السوري.
وهكذا فقد تم تطوير العلاقة بين أسعد وجودة لتصبح شراكة حقيقية، إذ ليس لبساطة أسعد أن تعيش دون «ملعنة» جودة، أما جودة فليس له إلا جاره اللدود يمارس عليه ألاعيبه، ويحقق من خلاله وجوده الاجتماعي، وأما الميدان الفعلي لهذه الشراكة، فقد كان الإحباط وانهيار الآمال المتكرر، وهما السمة الأساسية لحياة الفقراء البسطاء مهما اختلفت شخصياتهم وتعقدت علاقاتهم.
أما سليم مثقف الضيعة فلم يعد مجرد عاشق متهور، أو شخص يستخدم معارفه السطحية لإيهام بسطاء القرية أنه مثقف حقيقي، بل انتقل ليلعب دوراً في صناعة «حراكٍ مطلبيٍ» بين سكان القرية ينتهي في كل مرة إلى لا شيء.
إلا أن الأهم، كان التحليل العميق لعلاقة السلطة بسكان القرية، ولمستوى فهم هؤلاء السكان لطبيعة هذه السلطة ودورها، فرغم تجاهل المسؤولين لمطالب القرية الحياتية، يبقى أهل القرية نموذجاً للانصياع المطلق لإرادتهم، وهم لا يترددون في إعلان انصياعهم هذا بمناسبة وبدون مناسبة، حتى عندما لا يفهمون ماذا تريد السلطة منهم، وبالمقابل فإن السلطة لا تتذكر القرية إلا عندما تصل تقارير بأن ثمة ما يخل بالمصلحة العامة فيها، والملفت أن هذه المقاربات العميقة مرت من خلال قصص الضيعة البسيطة بسلاسة عالية، مع شحنة من الحب والجمال قلما شاهدناها في الأعمال الدرامية السورية.
يمكن القول إن ثمة تفاوتاً في عمق الطرح بين حلقات المسلسل، وثمة مبالغة لفظية أو شكلية في أداء بعض المشاهد، إلا أن المسلسل حافظ على سوية واحدة في أداء الممثلين، وقدم في كل حلقة من حلقاته جرعة من المرح الخالي من الابتذال والتهريج، والأهم أنه كثيراً ما نجح في تقديم نموذج مميز للكوميديا السوداء، ونجح في إنهاء العديد من الحلقات بحوارات أو مشاهد أو مواقف تثير لدى المشاهد رغبة في البكاء، كما أن بعضها يترك لدى المشاهد أسئلة كبرى مفتوحة بلا أجوبة حاسمة.
سجل الجزء الثاني من ضيعة ضايعة تميزاً نوعياً عن بقية الأعمال المقدمة في هذا العام، كما شكل عملاً رائداً في تاريخ الكوميديا السورية، والأهم أنه كان عملاً جماعياً بامتياز، يبدأ شلال الجمال والإبداع فيه من النص المكتوب بحرفية عالية على الورق، إلى الرؤية الثرية لمخرج العمل، إلى أداء الممثلين الذين نجحوا في الاستمتاع بالعمل ونقل متعتهم إلى الشاشة، وينتهي عند أدق التفاصيل الفنية في صناعة العمل، وهو نموذج لا بد من الاستفادة من دروسه، للخروج من أزمة الدراما السورية التي بدت معالمها واضحة في أغلب أعمال الموسم الدرامي الحالي.