مطـبات: ليلة المتاحف الطويلة
العنوان لحملة كبرى ألمانية في ليلة واحدة، قمة برامج برلين الثقافية الصيفية لهذا العام تحت شعار (ثلاثة تماثيل مكسيكية من الفخار تحت السماء الساطعة المليئة بالنجوم)، ليلة السبت الماضي من الليالي الأخيرة لآب الحارق هنا، لآب المنار هناك بتاريخ يتجاوز عمره 6000 آلاف عام، ليلة استيقظ فيها التاريخ في أكثر من مائة متحف دفعة واحدة، فيما ننام ومعنا تاريخ أطول وأعمق، وتماثيل ينام فوقها الغبار والإهمال، وليال للصخب والغناء الهابط تنير ليالينا، وفي أشد التصاقنا بهذا التاريخ ربما نحيي في ربوعه المتبقية سهرة حتى الفجر مع سلاطين ونجوم خافتة ليست تشبه سوى نفسها.
هناك في برلين يمتد المساء حتى تخوم التاريخ، ليلة طويلة ربما لاتربطها بالمكان أية ذاكرة، لكنها تريد له أن يدخل من أبواب متاحفها ويكاد لايخرج، تشترك برلين مع تاريخ ليس لها ليصبح لها أثر، بينما هنا تتراكم الآثار والقرون والأوابد في ليل عاتم صحراوي، هنا تتوالد المهرجانات الصيفية على شكل مشاوير، وانزواءات عاشقة، ومصاريف ستدخل في ميزانيات البلدات المصروفة والضائعة، وربما ينشر خبر سريع لا أحد يتوقف عنده عن اختلاسات مالية حتى في هذه التفاهات، وإذا أردنا العد فعشرات من هذه المهرجانات الخاوية تصرف لها المليارات المهدورة، والتي لو استبدلناها بمتحف مفتوح واحد لكان أجدى، لو رممنا جداراً في دمشق القديمة، أو عموداً في تدمر لكنا قلنا لتاريخنا المهمل لنا ذاكرة وأصل.
أكثر من 100 متحف سيفتح أبوابه للزوار في العاصمة الألمانية، بينما لدينا هنا في هذه الأرض المقدسة مئات المدن المفتوحة كمتاحف في الهواء الطلق، مدن منسية ومغبرة ويعيث فيها الخراب، خراب ليس من موقعة الدهر، خراب من الإهمال والنسيان، هل يتذكر أب هنا أن يذهب بأسرته إلى هذه الخرائب بدل رحلة إلى مزرعة مستحدثة بشلالات كهربائية، هل تهدهد أم هنا نوم صغيرها بقصة عن سرير الملكة، وزنوبيا المقادة من عرشها بالقيود، وأعمدة تدمر ومسلاتها...هنا لا نحتاج إلى استيراد تاريخ أحد، أو جلب تماثيل أحد، هنا تاريخ يغرق التاريخ، وتماثيل لم ينهكها الزمن، ولا جفاء الأبناء.
يقول الألمان إنهم يعدون لجزيرة المتاحف، ويرتبون نهاراتهم لصنع ليلة تاريخية واحدة، بينما نهاراتنا الحارة للتثاؤب لصنع ليلة طويلة لحفل سمر في مدرج تاريخي، لماذا لا نعيد على الأقل الألق لمسرح بصرى بالمسرح، بعد أن تجافت عنه المواويل، ألا يستحق كل التاريخ في المسرح التاريخي ليلة مسرح واحدة، ألا يستحق منا أن نرسم له ليلة مضاءة بابتهالات التذكر، أما أننا أمام حقبة بلا ذاكرة، حقبة كان من الأجدى أن نستعين فيها بإرثنا على هممنا المتهدلة من كثرة التثاؤب، والركض خلف رسالة عابرة من محمول عن مسابقة لربح سيارة، أو شقة مفروشة بالوعود، حقبة من العبث، تحتاج كانت لجرعة من بعيد، جرعة من تاريخ.
ليلة برلين الطويلة أدخلتها منذ عام 1999 في قائمة التراث الثقافي العالمي، تستحق لأنهم يريدون ذلك، ولا يديرون ظهرهم لحجر بائس، أو تمثال قديم متداعي الأوصال، ولا ينظرون إليه على أنه يشبه علبة تبغ مهربة، أو حجر أكثر ما يمكن الانتفاع به هو دسه لسائح يرى فيه ثروة، بينما نحن رويداً رويداً نمشي إلى انتزاعنا من تلك القائمة بغض النظر عمن يصنفونها، بسرعة غريبة نخسر ما تحت الأرض التي ندوس فوقها بخيلاء فارغ، الثراء هنا حيث ندوس، والتاريخ هنا حيث يمكن أن نرنو في ليلة صافية إلى عمود رخامي، أو جدار يسور هذا المكان الصاخب.