ربما ..! صوتنا المكسور
مع عزف الرجل الغجريّ على مزماره (الزمر بالتسمية الشعبية) خرج كلّ الأشخاص الذين عرفتهم دفعة واحدةً، وكأنهم ينسلّون من ثقوب الآلة الخشبية. رأيتُ (زوربا) مترّبعاً بهدوء وسط (الديوانية) على غير عادته في الضجيج الذي صوّره به كازانتزاكيس.. الشيخ حسني (كما جسّده محمود عبد العزيز في فيلم «الكيت كات» لداوود عبد السيّد).. فلورنتينو إرثا بطل «الحب في زمن الكوليرا» مدجّجاً بغرام نصف قرن ونيّف وأيام.. شخصيات الروايات جميعها، بطلات وأبطال الأفلام، الأصدقاء من كل المراحل بدءاً من رفاق الحارة وحتى آخر شخص صاحبته على الإنترنت، شخصيات الحواري الخلفية، طرفاء العائلة وغلاظها.. كلهم كلهم.. تقريباً الناس، كل الناس، توافدوا من ثقوب (الزَمْر) حين تجوّل عازفه سماعيّاً بين «الرست» و«البيات»، وجلب البرية طازجة لتقعد على ركبتيه.
ورغم خليط المشاعر الضارية والتهيّؤات الجنونية المستطيرة استطاع العقل أن ينهض بسؤاله: ماذا جرى للأغاني والموسيقى الشعبيتين؟؟ أليس مريباً أن تتحوّل الربابات والمجاوز والشبّابات إلى أزرار كيبورد في حفلات خلبيّة يسوقها الأورغ؟؟
ثمة انكسار عنيف في وجداننا الجمعيّ نراه واضحاً وصريحاً في الثقافة الفطرية التي دونت معارفها وخبراتها وتواريخها على شكل أغانٍ وعتابا ومواويل وندب وموسيقى!!
ثمة عناصر كثيرة تموت، على رأسها الروح..
دعونا نتذكّر أن البزق صار إلى ما نعرفه كآلة لا محدودة الإمكانات بفضل أميره محمد عبد الكريم، فمعه تطورت الآلة ذات الوترين المتواضعين إلى منجم نغميّ لا حدود لسحرها. الأمر نفسه حدث لليرغول (المجوز الطويل) على حنجرة خالد سليمان طحيمر، ذلك الفلسطيني المجهول الآن وسابقاً، لأن الشهرة كانت من نصيب معزوفات يرغوله التي كانت تضجّ بها إذاعتا «دمشق» و«صوت العرب» كما لو كانت بركاناً عاطفياً لا مهرب من حمم مقاماته. ولنسأل كذلك: أين هو الشاعر الشعبي الذي يمكنه قول المكان والزمان كما فعل الشيخ عبد الله الفاضل الذي اجترح فن العتابا بالشكل الذي باتت معروفة به في وقتنا الحاضر، حين كتب عذابات المرض والهجران ووحدته مع كلبه (شير).
واحدة من مآسينا العظمى أن الموسيقى الشعبية مهدّدة بالانقراض، ناسين كليّاً أنها إحدى أهم مكونات هويتنا الثقافية الأساسيّة.. فكيف لثقافة أن تكون وقد تخلّت عن خصوصيتها؟؟
ليس في هذا حنين إلى ماض ذهبيّ، ولا محاربةً لفكرة التقّدم، فقد كان يمكن للفنون القديمة أن تستمر إلى جوار الجديدة (أو في جرار جديدة) لولا أن الصوت، صوتنا، نفسه قد انكسر، وبَصْمَتُه امّحت.. لذا لا تلوموا الروح وهي تطلق صراخها، في محاولةٍ لاستعادة الصوت، ضد كل من يروم تزييفها..