حوار: مهند دليقان حوار: مهند دليقان

عادل خضر: العمل الجسدي يحتوي على متعة نقية صافية

يتحدث التشكيلي عادل خضر بلغة عميقة نفاذة، لا تقل بلاغة عن لغته في محترفه، إذ قلما نجد لدى التشكيليين من هو قادر على الحديث عن شغله بهذه القدرة التي يمتلكها هذا الفنان.. هنا حوار معه..

كيف تصف الدور التعبيري الذي تلعبه الخامة المختارة في تشكيل عملك، وهل يتوقف اختيارها على ضرورات تقنية أم أن للخامة أبعاداً أخرى؟

منذ البدايات الواعية للإنسان استخدم ما توفر له في الطبيعة من مواد جاهزة،كي ينقش أو يمثل عليها ما يريد التعبير عنه من أفكار تواصلية مع الآخرين (الأحجار-الطين – الخشب- عظام الحيوانات..) وفي العصر الحديث الصناعي أنتج لنا مواد جديدة (معدنية- بلاستيكية- ورقية- وخلائط متنوعة وصولاً إلى الفيديو وأجهزة الحاسوب ..)، إذا إن الخامة هي بالضرورة حامل التعبير الفني، وكل مادة أو خامة لها طاقة وتأثير على المتلقي تتعلق بطبيعتها الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية ويبقى على الفنان أن يجيد الاختيار الذي يحقق التوافق والتوازن بين الفكرة، وما تحمله من دلالات حسية ونفسية، وبين قابلية التشكيل والتكوين، وهنا على الفنان أن يكتسب المهارة والتقنية اللازمة والأسلوب المتميز للتعامل مع هذه المواد، وأن يكتشف ويفجر طاقاتها الكامنة، وهذا حال جميع الفنون فآلة العود أو خشبة المسرح أو الكاميرا أو اللغة.. هي جميعها أوعية وأدوات للتعبير والمعرفة.. وأنا من الذين يرغبون في البحث واكتشاف إمكانيات كل ما يقع تحت يدي من مواد وخامات لأوظفها في التشكيل الفني. 

في السنتين الأخيرتين عملت بكثافة على خامة الحديد هل من رابط بين المدينة وتضخمها وبين الحديد بقساوته ولمعانه؟

توظيف الحديد فنياً يعود إلى ما قبل تضخم المدن واتساعها، ولا أرى رابطا بين الاثنين، كل ما يشغلني هو مقدرة هذه الخامة أو تلك على أن تجسد أفكاري وتمنحني حرية في التشكيل والتعبير

الحديد نعم قاس وجاف وأنا ممن يستمتع بعناد وقساوة المادة، فهي تستنفر كل طاقتي في العمل وهذا ما يحقق لي المتعة والبهجة في إنجاز العمل الفني، كما أنني أعتقد أن العمل الجسدي بحد ذاته يحتوي على متعة نقية صافية، وهو يمنح الفنان شعوراً جمالياً حراً وخلاقاً ويزوده بشحنة عاطفية، لها تأثير كبير على المنتج الفني، وأعتقد أن جميع الخامات وبشكل مجازي هي أرواح ولها أحاسيس ومشاعر وعلينا أن نقيم معها علاقة حب لتبادلنا إياه.

في شخوصك الحديدية الرؤوس كلها، إلا ما ندر، منكسة هل لأن الإطراق يحمل طاقة تعبيرية أقوى؟ أم هو موقف من الحياة؟

إن الرأس في جسد المنحوتة بؤرة جذب شديدة التأثير على المتلقي، وتحديدا الوجه، فهو المرآة التي تعكس الشعور والوجدان الداخلي وحالات التعبير الإنساني المختلفة، فالمتلقي يتجه نحوه مباشرة لامتلاك مفتاح قراءة العمل الفني، ومن ثم الغوص في أعماق ومدلولات المنحوتة، هذا شبيه بتصرف الإنسان حيال لقائه أول مرة بشخص آخر لا يعرفه. بالعودة لسؤالك عن الرؤوس المنكسة، بالتأكيد لا أعني فيها حالات الانكسار إلا القليل منها، مع احترامي لهذه الحالات كونها تمثل حالة إنسانية طبيعية. إن شخوصي في الغالب تحمل أسئلة حياتية وإشكالية وهي تميل برؤوسها إلى الأسفل نعم، ولكن في حالة من التفكير والتأمل العميق، وفي حياتنا لاحظ عندما تطرح سؤالا صعبا على إنسان فغالبا ما يحني رأسه وينظر إلى الأرض ليبعد التشويش البصري الذي حوله، وليأخذ فسحة أوسع من التفكير قبل الإجابة.

أما موقفي من الحياة فأردد ما قاله جبران: «إن الحياة لا تقيم في منازل الأمس». 

«ما فهمت شي» كثيرا ما نرددها – كشباب -  لدى وقوفنا أما عمل تجريدي بحت، ويأتينا الجواب أحياناً بأن علينا أن نبحث عن إحساسنا تجاه العمل لا عن فهمنا له، هل لهذه المعادلة من حلول؟ 

سؤال ليس بالسهل وعلي الاختصار والقول بأن الإنسان منذ البدايات الأولى استخدم أدوات تعبير متعددة ومختلفة، بدءا من الإشارة والإيماء والرمز والصوت والرقص وصولا إلى اللغة، وهذه الأخيرة كانت حاسمة بتطور عقل الإنسان ونمو تفكيره ومعارفه. إذا دققنا في أدوات التعبير المشار إليها نجدها قائمة من حيث البناء على الشكل «لغة الفن التشكيلي في العصر الحالي»، فإذا تمت المقارنة نجد التشابه على النحو التالي: عناصر التشكيل كما نعرفها حاليا (النقطة، الخط، الحجم، الأبعاد، الضوء، اللون، المساحة، النسب، الملمس..)، هي ذاتها تقريبا التي استخدمها الإنسان في بداياته الأولى، فهناك إذا  لغة تشكيل مشتركة ما زالت مستمرة، مع فارق درجة نمو وتطور الفكر البشري المطرد والقائم على تقدم وسائل العمل وتطور العلوم وخاصة التطبيقية كالفيزياء والميكانيك والرياضيات..

وإذا ما استعرضنا هذه التغيرات نجدها تمت على النحو التالي: على جدران الكهوف يظهر استخدام واضح لأدوات التشكيل عبر التصوير والنقش والحفر، حتى اللغة أتت بأشكال ورسوم وخطوط (الهيروغليفية - المسمارية..) ثم جاءت مرحلة الصورة والتمثال للعبادة خوفا من ظواهر الطبيعة غير المفهومة بتقلباتها، وصولا إلى ديانات التوحيد وهي مرحلة متطورة، بالانتقال إلى التجريد حيث أصبح الإله مجرداً عن الملموس والمجسد وانتقل إلى المتخيل كفكرة وقد سيطرت الأديان لفترات طويلة على الفنون واتخذت منه وسيلة هامة للقراءة والقص والتكريس، وتم إخضاع الفن كأداة للتفسير والتفهيم والتوضيح والتي مازلنا نتأثر بها إلى الآن كقولك في سؤالك «ما فهمت شي»، إلى أن خطا الفن في بداية القرن العشرين مع بيكاسو وماتييس وآخرين خطوة حاسمة باتجاه تنقية الفن التشكيلي من لغة المحاكاة التقليدية (طبيعة- بورتريه- قصص دينية- أدبية ...الخ)، واتجه الفن التشكيلي نحو الابتكار والتجديد وتفعيل مخيلة الفنان والعودة به إلى منابع الطاقات التعبيرية البريئة، عبر بناء تشكيل فيه حداثة ومستجيب لمتغيرات الواقع وتطوراته، وللمشاعر الداخلية والأفكار الجديدة للإنسان، بحيث أصبح المضمون والمعنى «الفهم» نابعاً من بنية العمل التشكيلي، فهو صامت ومحسوس بعيدا عن لغة اللفظ والأدب وبهذا يحل محل (أفهم أو لا أفهم)، أرى وأحس وأستمتع وأتأثر. ودعني هنا أستعرْ من مقال للكاتب بلند حيدري حول هذا الموضوع «أنت تسمع صوت العصفور وتطرب له ولكن لا تفهم ما يقول».