بين قوسين: الأغنية.. والصراع الطبقي!
عرفت المدن العربية اتساعاً كبيراً في العصر الحديث بسبب التزايد السكاني الطبيعي والهجرات الكبرى المتواصلة من الريف إلى المدينة، الأمر الذي أحدث تغيراً بنيوياً في طبيعة المدن والأرياف على السواء، ونتجت عنه تشوهات كبيرة، اقتصادية- اجتماعية ونفسية وبيئية وعمرانية في كل منهما... وقد واكبت معظم الفنون والآداب والدراسات السوسيولوجية والأنتربولوجية هذا المستجد الهائل، وعبرت عنه من زوايا نقدية وإبداعية متعددة ومتفاوتة العمق..
لكن اللافت أن غالبية التجارب والمشاريع الغنائية العربية الحديثة التي يمكن أن يعتد بها لتميزها النسبي من حيث الشكل والمضمون، وخاصة في بلاد الشام والعراق حيث المدن الأقدم على وجه المعمورة، لم تلتفت لهذا المعطى الديمغرافي الجديد بانعكاساته وتأثيراته المعاشية، وظلت تفوح من لغتها وصورها وتعابيرها وإيقاعاتها ومقاماتها رائحة الريف، وأنصع الأمثلة على ذلك تجربة الرحابنة بامتداداتها وتشعباتها في لبنان، والغالبية الساحقة من التجارب الغنائية العراقية، والتجارب الفردية المتعددة في سورية...إلخ.. أما في مصر التي تربت الأغنية الحديثة فيها وترعرعت في البلاطات والقصور، فعدا عن تجربة سيد درويش العظيمة المنبجسة من رحم الأغنية الشعبية المصرية، المطموسة عربياً بل ومصرياً، ظلت معظم التجارب الغنائية المعروفة معزولة عن التطور الاجتماعي- الاقتصادي، وبقيت أغراضها محصورة في المعاني المجردة التي لا تتجاوز الحب والهجر والشوق والأسى الذاتي...، وبالتالي لم تكن في يوم من الأيام معنية أو مفتوحة بشكل واسع ومؤثر على المستجدات المجتمعية الريفية والمدينية..
فلماذا غابت المدينة عن منجز عمالقة الموسيقى والغناء العرب؟ لماذا ظل الرحابنة وفيروز يتغنون بالقمر والحقول والينابيع والطيور والأشجار فيما المدن تكبر وتتوسع وتشتد التناقضات والصراعات فيها لدرجة الدمار؟ لماذا لم يغنّ مطربو العراق سوى للحسناوات والبوادي والقرى، والتناقض الاجتماعي الجاري في المدن خصوصاً، الملوث طائفياً وقومياً على أشده؟ لماذا انشغلت الأغنية السورية على قلة القيّم منها، بالفلا والجبال والأنهار والبيادر وسنابل القمح فيما أحزمة الفقر تحاصر المدن الكبرى وعلى رأسها دمشق، ثم أفرطت بريفيتها أكثر وبشكل ساذج، عندما انفتحت مؤخراً على الرديء من أغاني الأقاليم؟ لماذا هذا التغافل المتعمد عن مستجدات الواقع وتحولاته وتناقضاته وصراعاته؟ ألم تكن الأغنية تاريخياً ابنة المواسم والطقوس ومواقع العمل وطبيعته؟ إذاً لماذا حصل هذا الاغتراب القسري فيها؟ لماذا الهروب من تفاصيل الحياة المعاصرة وأزماتها: الفقر، البطالة، الخوف من المستقبل، الفساد، الازدحام، التلوث، ضيق الهوامش، الغلاء؟ أهو قصور في وعي وإدراك الواقع الجديد، أم هو ميل طوباوي للتمسك بطهر عالم لم يعد من الممكن أن يبقى طاهراً؟
ما قد يبعث على بعض الأمل في لوحة الأغنية الريفية المصرة على البقاء سيدة للغناء، بعض المشاريع والتجارب الفنية المدينية المتميزة، وأهمها تجربة زياد الرحباني الممتدة منذ ثلاثة عقود والمستمرة بقوة، والتي تعد تجربة مدينية بامتياز، كونه الوحيد المعاصر ربما، الذي غنى لتفاصيل مدينية خالصة كغلاء المطاعم وانقطاع الماء والكهرباء والتمايز الطبقي والصراعات المجتمعية.. لكن ما يقلق بشدة اليوم في زمن «الكليب»، أن الأغنية الغارقة في أزمة انفصالها عن حاجات الناس وأحاسيسهم، الهابطة في المجمل باستثناءات قليلة، والتي لم تعد تُسمع وحسب، بل أصبحت تُرى أيضاً، أخذت تؤدي دور المثبط الاجتماعي، وراحت عناصرها: اللحن الرديء والإيقاع الرديء والكلمة الرديئة، تشد أزرها بصرياً بالعري والسيارات والقصور الفارهة واللوحات الراقصة، معتمدة على إثارة الغرائز بدل مخاطبة الروح والمشاعر، لإلهاء الناس عما يمكن فعله لتغيير واقعهم السيئ.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.