الذكرى الرابعة لغياب محمد الماغوط: شاعر الحزن البريّ والمطر والأرصفة

تقوم الحياة بتركيبها الإيقاعي الدرامي على مزيج ملحمي لجملة من المتقابلات، أو المتضادات البنيوية الأساسية التي بمجرد انتفاء أحدها يختل الإيقاع، ويضطرب إلى حد تغير الطبيعة في كثير من الأحيان، كالولادة والموت.. الخير والشر.. الحب والكره..السخرية والجدية.. والأهم الفرح والحزن. فكما نحن تواقون إلى الفرح لمتابعة مسيرة الحياة نحن بحاجة عضوية إلى الحزن لندرك كنه الحياة ورسالتها.

من هذه الزاوية بالذات، أطل علينا «البدوي الأحمر- محمد الماغوط» بكل عذاباته الطائشة وخيباته الساخرة لمرارة الألم، ليرينا العالم بأدق تفاصيله البسيطة، ويعري شؤوننا الصغيرة معتمداً على الصدمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ودون أي تنميق أو تأطير وزني، أو قافية، ليخرجنا من قمقم التابوهات الموروثة؛ علنا نتوب عن شطحات الوقوف على الأطلال، وندرك بأنها ما «بانت سعاد»، وأن «هريرة» لا تستحق الوداع.

أطل الماغوط بكل مفردات نتاجه الثري والمترامي الأطراف كالصحراء تماماً باتساعها، وبما تلقيه في النفس من غربة ووحدة وذعر، ورغبة في التسكع اللامهتدي إلى طلل مرتفع، أو هضبة أعيت الماغوط أن يجدها في هذا الشرق لينصب عليها راية الاستسلام أمام عصر مغرق في جاهليته حد الفجيعة، ومرة أخرى ليصدمنا حين يخبرنا بأن هذا الشرق «غرفة بملايين الجدران».

الماغوط الذي قاده انتماؤه السياسي الذي كان مرده الفقر، ومجرد «مدفئة» وجدها في مكتب «الحزب السوري القومي الاجتماعي» في السلمية إلى غياهب السجون أكثر من مرة، ثم إلى مغادرة وطنه وحرمانه من متابعة تحصيله العلمي؛ ليستوطن التسكع فوق خارطة الزمن، ويأوي إلى الأرصفة باعتبارها عرشه وفراشه الوثير، لم تكن تشغل فكره ورأسه (الممتلىء حتى آخره بالأحلام والأمنيات) هموم أزمة الشعر الحديث، والحداثة اللفظية، وقواعد شعر النثر الغربية، وربما لم يستطع أن يفرق حتى التهمه السرطان بين «بودلير» و«رامبو»، ولكنه ودون أن يدري غدا احد أهم رواد قصيدة النثر العربية، والمفصل الصعب الأكيد فيها، هكذا دون أن يستند منجزه إلى خلفية ثقافية أكاديمية؛ بل إلى مزيج غريب صنعته حدة الحياة وقساوتها، وخطوات السجان التي صارت (أثار قلمه) الذي خطه على ورق السجائر. ليصبح الصعلوك الأهم في عصر الحداثة الذي زين مشهدنا الثقافي المعاصر بأزقته الخلفية المهشمة المناظر، والحائرة الدلالة، وبالفقراء والجياع والمنتظرين الذين أحبهم وكرههم أيضاً.

رحل الماغوط و«حبه كالإهانة لا تنسى» لنكتشف نحن جيل الشباب عاماً بعد عام معنى كلامه: «هناك لعنة اسمها الماغوط» ولنسأل جميعاً: هل يا ترى رحل حزننا؟