الليبراليون الفقراء
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصابت أعداد متزايدة من المثقفين العرب حالة فقدان ذاكرة جماعية، فانكب البعض على التراث، وراح البعض الآخر يشيد بفضائل البرجوازية الوطنية، وفي هذا السياق حدث الانفجار الإعلامي على هيئة صحف ومجلات ومراكز أبحاث وفضائيات كان لها أن تستعين بمثقفين قدم معظمهم من اليسار.
وإمعاناً في الانتقام من الماضي والتبرؤ منه من جهة ولإرضاء رب العمل الجديد من جهة أخرى، صرنا نجد خطابات تعبر عن عداء سافر لكل ما هو اشتراكي، لم يكن ذلك نابع من خيارات فكرية أصيلة، تراوح الأمر بين ركوب الموجة والارتزاق، تصفية الحسابات والنكاية، لكن بعد مدة صار الأمر طبيعة ثانية، صار الممثلون الجدد لليبرالية التي بعثت من القبور يتكلمون عن ما يبدو كأنه اقتناع، إذ بعد عدد كاف من السنوات تمكن هؤلاء من ترتيب أوضاع اقتصادية مميزة لأنفسهم، فصاروا يتحدثون بلسان طبقة لا ينتمون إليها أصلاً.
تجلى ذلك محلياً في شكلين: محللون ومعلقون يكتبون في قضايا السياسية الدولية في منابر غير محلية في الغالب، انخرطوا بقصد أو بغير قصد في الترويج للسياسات الأمريكية في المنطقة، وتلميع صورة ما يعرف بالاعتدال العربي، وتخفيف حدة العداء لإسرائيل وتقديم خدمات مجانية في هذا الصدد، وتظهر قلة حساسيتهم اتجاه إسرائيل في عدم إشارتهم لها، أو تناول ممارساتها المحدود في كتاباتهم، هكذا صارت مفردات كالصهيونية والاستعمار (وهو الذي عاد للظهور بشكله الكلاسيكي) والإمبريالية تنتمي إلى قاموس أهيل عليه التراب.
أما الشكل الآخر: فنجده فيما يعرف بالصحافة الخاصة حيث تحول صحافيون كانوا يكتبون في كل شيء إلى صحافيين اقتصاديين متخصصين وبعد الموجة الأولى من التغني بأمجاد البرجوازية الوطنية ذات السجل غير المشرف في تعميم التعليم وتوفير الخدمات الصحية، والذي يعني ضمناً الكفر بمجانية التعليم والصحة التي مكنت جيلهم من البقاء على قيد الحياة والوصول إلى الجامعات بدل الاكتفاء برعي الغنم في أراضي البك المترامية الأطراف في أحسن الأحوال، انتقلنا بعد ذلك إلى تلميع رجال أعمال يبدو رجالات البرجوازية الوطنية على بؤسهم طبقة من الآلهة بالنسبة لهم، هكذا صرنا نجد أبناء الفقراء يتغزلون باقتصاد السوق، لأنهم هو وحدهم كأفراد حققوا شيئاً من الخلاص الفردي، وبذلك فقدوا وظيفتهم كمعبرين عن رأي عام واكتفوا بأن يكونوا نخب تابعة تساعد على تمرير سياسات اقتصادية جائرة، وبهذا لم تعد الصحافة توصل صوتاً أو تعكس صورة مجتمع بل تقترح وتهيئ لكي تفرض. وانتهينا لأن نجد كاتباً نشأ في أحياء البؤس يستقتل في الدفاع عن الليبرالية، ولاجئاً فلسطينياً ضد المقاومة، فوصلنا إلى ما سماه فرانز فانون «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء»، وغاب الربط البديهي بين الاقتصاد والسياسة، بين التبعية والمقاومة، بين الاستغلال والكومبرودورية. ثمة من لا يمكن أن يجري تصديقهم بعد الآن، وثمة من يكتب لغير القارئ.