جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

أزمة القيم الثقافية

تشكل القيم الوجه الخفي للتجربة الإنسانية، فهي التي ترسم الملامح الأساسية لضمير المجتمع ووجدانه، وتضع الضوابط العريضة التي تنظم سلوك أفراده، وتحافظ على وحدة هويته الاجتماعية وتماسكها.
فالثقافة بالمعنى الاجتماعي العام هي نتاج الفعل الاجتماعي بكل صوره، وبالتالي يدخل في نسج هذا المعنى كل أساليب وأشكال القيم التي يبتدعها الإنسان ليكسب إنسانيته معناها الخاص، وينظم بها حياته على كافة الصعد والجوانب الاجتماعية والفكرية والروحية والجمالية.

وبهذا المعنى تصير الثقافة هي التعبير الحي عن القيم، والقيم هي مضمون الثقافة ومحتواها، وهي توجه الفعل الثقافي، وإذا حدث وشاب هذه القيم خلل في البنية أو الأداء الوظيفي سيظهر مفعوله بوضوح تام في العناصر الثقافية مثل (الرأي والموقف والتعبير عن الإرادة)، والذي بدوره يقود أيضاً إلى أنماط من الإفلاس في مجال القيم الثقافية تؤدي في الغالب إلى تلاشي الذات وسقوط الهوية، وهذه الإكراهات في القيم لاشعورية تقحم نفسها في العمل الثقافي، وتؤدي مع مرور الوقت إلى هدم الشخصية الثقافية، وظهور ما سماه علماء النفس (الشخصية المضطربة) التي تعاني انفصاماً ثقافياً شديداً كنتيجة للصراعات القيمية التي تعيشها، والتجاذبات بين قيم الأصالة المورثة والقيم الوافدة الغريبة .
وأمام المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم حالياً، والعولمة بمفرزاتها الثقافية التي أثمرت ما يسمى بـ«الصدمة الثقافية» وتفشي النيوليبرالية الأدبية. بات الحفاظ على الانسجام الثقافي شرطاً أساسياً لحماية القيم الثقافية ومواجهة الإسفاف وحداثة «الفاست فود» الأدبي، لا عن طريق الجمود الثقافي والتقوقع والانغلاق، بل بالتكامل الثقافي المدروس الممنهج، لكي لا ننجرف وراء قيم وافدة لا تنسجم مع ثوابتنا الثقافية، وتضر بالتوازن الحاصل بين مختلف العناصر المكونة لثقافتنا. والحفاظ على الهوية الثقافية ووحدة الذات الحضارية ينبغي أن يشكل الأولوية الأهم عند النخب/ الطليعة التي تعاني اليوم من أزمة ثقافية أهم مظاهرها الانسلاخ فيما يتصل بالقيم وأنماط الحياة المعهودة عندنا، والتي تشكل أساس توازن وتكامل هذه الذات، خصوصاً بعد غياب الحديث عن الانتماء والهوية عند المثقفين العرب.. فالأزمة الكبرى التي تعيشها الثقافة العربية والتي تتصل بكل مناحي الحياة وتخترق الفكر والبيئة الشعورية واللاشعورية للإنسان، باتت تنذر بالخطر الجسيم، إذ لم يعد من المجدي الحديث عن ثقافة عربية موحدة في ظل التشكيك بالوجود العربي الواحد، وانتشار الثقافات المحلية، وتعميم قيم الثقافة الشعبية المتبدلة التي تؤدي لتسطيح الثقافة ونشر القيم الخاطئة.
إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصل، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي تنمية عقيمة، ومن ثم فإن الشعب العربي لا يمكن أن يتفاعل مع ثقافات تتنافى مع قيمه وان سميت ثقافة عربية، فالإنسان هو الهدف الذي يتوخاه الخطاب الثقافي وهو الذي يتوجه إليه بفاعليته وتأثيره، والذي سيشكل بوعيه واستنارته لبنة هامة يقوم عليها بنيان المستقبل وغد الأجيال القادم.