لماذا يمكن اعتبار دمشق مدينة مناسبة للكاتب
ليست دمشق محافظة كالقاهرة اليوم، أو (معجوقة) كبيروت. في دمشق ثمة حدث ثقافي باستمرار، ليس ذا مستوى واحد، ولا هو كثيف ومتسارع، صارت الكثير من الأنشطة الثقافية تأتي من الخارج في السنوات الأخيرة، وهناك تحسن في نوعية الإنتاج المحلي، كما أن المنتجات الثقافية من كتب وأفلام وموسيقا متوفرة وفي أحدث إصداراتها. أي أن استهلاك الثقافة متاح وبتكلفة قليلة هي أيضاً أقل بكثير أحياناً من تلك التي في دول مجاورة أو قريبة.
ليس في دمشق حراك سياسي فعلي، وهو في الغالب ذو طبيعة ثقافية، قد نجد خلافات سياسية في أوساط المثقفين لكنه خلاف حول تصورات إقليمية أو رؤى فكرية وتاريخية وليس حول وقائع وسياسات وتفاصيل ربما ما خلا الجانب الاقتصادي السياسي. ليس في ذلك ميزة، وليس هذا موضوعاً للمدح أو الذم، لكن وفق المقاربة التي نقترحها يتيح ذلك للمثقف إن شاء، العمل على مشاريع غير منغلقة على الحاضر، ولا تغرق في السياسات اليومية المبلبلة.
تمنح دمشق من الحرية الشخصية ما قد لا يوجد في مدن عربية وإسلامية أخرى، فلجم التعبيرات البدائية للمجتمع الأهلي، يزجر التدخلات في حياة الفرد، والتكوين المتعدد للمجتمع يخلق حالة من التعايش الفعلي يصنعها الواقع، والسلام الاجتماعي القائم والأمن، يعطي للمثقف إمكانية عيش حياة خاصة وسرية إن أراد، لكن قلة تريد ذلك فالخوف من العزلة بالمعنى الوجودي، وبمعنى العزل أي الإهمال واللامبالاة اجتماعياً وإعلامياً تبعد الكثيرين عن اغتنام هذه الفرصة التي خلقها سياق معين دون قصد.
بقايا دولة الرعاية الاجتماعية بنموذجها المحلي، توفر شبكات أمان لناحية الحصول على عمل ثابت، وتلقي خدمات بأسعار بعضها معقول، ومحافظة البنية العائلية على قوتها دون أن تكون عامل ضغط في الوقت نفسه، وطبيعة العلاقات الاجتماعية المتسمة بقدر من الحميمية والحس الإنساني تمنع الوصول إلى حالات فقر مدقع لدى أشخاص على قدر من التعليم والإمكانيات، وتنوع الفرص في الداخل والخارج يحمي مساحة من الاستقلالية دون امتلاك مزايا مادية مماثلة لمثقفين بارزين في دول أخرى بالضرورة.
تعاني المنابر الإعلامية السورية من ضعف، معظمها رسمي، فيما تغيب الجدية عن المشاريع الخاصة في الغالب، وبالكاد يوجد هامش لمنابر حزبية ولا تكاد المنابر الأهلية توجد، لكن نشاط المثقف السوري يتوزع بين الداخل والخارج، والصحافة العربية متاحة بمعظمها للقارئ السوري، وإقامة الكاتب السوري في بلده لا تؤثر كما يبدو في فحوى طروحاته.
الكاتب المؤلف والكاتب الفنان مهمته أكثر يسراً نظراً لخصوصية خطابه غير الآني واللامباشر، ورغم حداثة تجربة غالبية دور النشر السورية إلا أنها تشهد تطوراً، والناشر البيروتي والدولي هو خيار قائم دوماً، أما الجدوى المالية لمهنة الكتابة فهي مشكلة عربية، قد تكون أكثر حدة سورياً مقارنة بمراكز النشر الكبرى التي تعاني أيضاً
من عسف رقابي لا يعرف المؤلف السوري ما يوازيه.
الغنى الحضاري لدمشق يتيح للفنان أن يكون على صلة ملموسة وعلاقة حية بالتاريخ الذي يحتفظ بتجسدات مرئية ومعاشة من خلال العمارة والمجتمع، فالاستمرارية التاريخية للمدينة تتيح معاينة للطبقات الحضارية المتراكمة عن كثب، ومخزون الأسرار والحكايات والتواريخ يعطي أكثر من طرف خيط لنسج المخططات الخيالية، والعالم الضاج بالألوان والصور كما هو إطار ملائم لتجربة فنية غنية هو مكان مناسب لخبرة حياتية منعشة مع مدينة تجيد لذة العيش.