نساء بلا تصنيف

هنا، على هذه الأرض، ولدت زنوبيا وأليسار، وشيدت ممالك حكمتها النساء، وسجد الرجل لقرون أمام الآلهة المؤنثة..وهنا حملت النسوة برجال من جميع الألوان، قادة وأنذال ولصوص، أساتذة وفلاحين وماسحي أحذية، شجعان وجبناء، خونة وسادة..هنا غنت النسوة للخصوبة وإعادة الحياة، للمطر المنحبس والمحاصيل، وزغردت للنصر، وبكت من الهزيمة.

هنا.. صنعت قلائد التين اليابس، وطحين الخبز المشروح، واللبن الرائب كالجبن، وشرائح قمر الدين، ومكدوس الشتاء، وحملت الحطب من الأحراش إلى مدافئ جائعة للنار وأطفال يرتعشون من البرد.
هنا.. مشت حافية على الثلج، وقطعت الحبل السري لجنينها بحجر، وحفرت بئر ماء لتروي (مساكب) الفاصولياء والخيار والفجل في حاكورة بيتها، وانتظرت سنوات كافية لجفاف أنوثتها عودة زوجها من الغربة ليبني عشاً جديداً للعمر، سهرت على شقاء الأولاد ونامت من الإنهاك في الطريق إلى وظيفتها، ترهل جسدها، تشققت أكفها من قلة العناية، وقسوة الماء الكلسي، لكنها هنا.. تعلّم في ليل هادئ طفلها أبجدية الصبر.
هنا.. مارس عليها الرجل فحولة جاهليته، وسطوة ميزة الذكورة، وفرادة تبوله على قدمين واقفاً، مارس الأبناء عليها وراثة الرجولة الغبية في الشرق الذي أسقطته الغفلة، والأحفاد رسموها على شكل جريدة مهترئة لقراءة الخرافات.. هنا كانت ذاكرة عن الغيلان والعتمة.
في الطريق الطويل لتحررها خسرت راحة أمومتها وفتنة أنوثتها، صارت آلة وراء آلة، من جديد خدعها الرجل المرتجف من خصوبتها، وظلت مع تحررها المخادع آلة وجسداً في سرير وضحية مذبوحة من الوريد.
الآن.. في الطريق إليها، يسنّ المدافعون عنها أقلامهم، وتعقد لها الندوات، وتأسس المراكز، ويجند الكتاب، وتطلق الدعوات لتغيير القوانين الجائرة، ويتبادل المتنافسون السجالات والمقالات، الاتهامات، نصيرها وعدوها، تصير الآن وهنا.. كرة  التنافس على الصياح.
على الأرض.. الأرملة التي عاشت في عز الذكر القوي صارت عاملة في منازل البطر ومحدثي النعمة، الأرملة التي حملت ابنها الوحيد تحت نيران العدو وسماء النزوح صارت بائعة دخان مهرب، الأم التي كانت تربي ماشيتها لأولادها صارت بائعة جبن في البرامكة، الفلاحة تبيع الخس والفجل.. البنت التي حلمت بأن تكون مدرّسة أو ممرضة أو عاملة في معمل خياطة، أو سكرتيرة عند طبيب أسنان، هي ذاتها التي دفعتها الحياة إلى الشارع إما متسولة بساق مبتورة، أو متسولة تبيع (العلكة والسمسم المغلف)، العاشقة انتحرت، أو ذُبِحَت على يد شقيق عاطل عن العمل والشرف.
في الشارع.. تلملم بقايا أنوثتها المهدورة، وخصوبتها المفروشة في الليل، ترخي برأسها على حافة كرسي السرفيس الذاهب إلى حيث قدرها، ماذا في ذاكرة الأنوثة من تعب، منذ أن سقطت عن عرش ألوهيتها إلى الشارع، دهر مر على الجسد الذي حمل الأجيال نطافاً وصيّرها أمماً وشعوباً، أبناء حلال وحرام، من طفلة غضة بلا قشعريرة، ومراهقة تنظر إليها العيون الجائعة للافتراس، وامرأة مسكونة بالتعب بعد أن أفرغوها من لذتها وخصوبتها وعمرها.
آخر الدراسات والتقارير الغربية يقول بأن المرأة السورية أكثر نساء العالم ذكاء، السبب الذي تورده الدراسة يعزي الأمر إلى الطريقة التي تتعامل فيها مع الغذاء خصوصاً فيما يتعلق بزيت الزيتون.. المرأة السورية أذكى نساء الأرض.
هنا.. في الريف الممعن بالضجر والفقر.. أم سليمان الثمانينية القوية تجلس على مصطبة البيت العربي، تلتف حولها النساء والصغار، تروي ولم يدركها الخرف تاريخ الألم، الحب الذي لم تعرفه لكنها العشرة، الأولاد الذين كبروا ومات بعضهم، الأرض التي حفرتها وزرعتها وأكلت منها، الدموع التي ذرفتها وهي تغادر بدون قلب قريتها في (الجولان)، الوشم الذي لم يفلح الزمن بنزعه عن أنفها وذقنها يروي حكايات الصراع مع الحياة، يدها التي ترتجف مشيرة إلى الجنوب.. هكذا عاشت ذكية دون أن تقرأ تقريراً واحداً، أو مقالاً مطولاً لأحد.

آخر تعديل على الثلاثاء, 12 تموز/يوليو 2016 14:59