محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

6 إبريل... ضربة من خارج السياق!!

«إنها الساعة السابعة صباحاً من 6 إبريل. سأتوجه إلى المحلة لتغطية إضراب المصنع. صلوا لأجلي، وآمل أن ننجح في إظهار شوائب النظام المصري.

كريم البحيري... من بلد حر: بلد الثوار المصريين»

مدونات على الانترنت، شباب متحمسون، وإضراب عمالي في أكبر معامل النسيج في مدينة المحلة، هكذا انطلقت حركة 6 إبريل المصرية عام 2008 لتفاجئ الجميع، وتطرح علينا أسئلة من طراز جديد، تجبرنا على البحث عن مفاهيم مختلفة لمقاربة مثل هذه التجليات غير المتوقعة للحراك الاجتماعي في بلداننا، بعد أن تهرأت كل الأقنية التقليدية لهذا الحراك بفعل شيخوختها الذاتية والقمع الشديد الذي تلقته من السلطة (التي لم تسلم هي نفسها من هذه الشيخوخة رغم كل مظاهر القوة).

مرَّ عامان على نشأة تلك الحركة، وكتبت حولها عشرات المقالات والدراسات والتحليلات، إلا أن شباب 6 إبريل كانوا من السرعة والقدرة على المباغتة ما جعل كل المحللين يتوقفون لاهثين عن ملاحقتهم، مدركين عبث المحاولة... ثم جاءتنا في الأيام القليلة الماضية أحدات 6 نيسان في القاهرة لتعيد طرح الأسئلة نفسها، بعد أن أثبتت هستيريا النظام المصري في قمع أولئك الشباب مدى الخطر الذي تمثله مثل هذه التحركات على كل البنى السياسية والاجتماعية والثقافية الراكدة والمسيطرة.

الخمر الجديدة تحطم الجرار العتيقة!

مصر بلد عربي نموذجي في كل أحواله: نظام ديكتاتوري دموي مستعد لفعل أي شيء وكل شيء للمحافظة على بقائه، أحزاب ونقابات ومؤسسات اجتماعية وثقافية دخلت حالة الموت السريري منذ عقود، تطرف ديني كاسح انطلق في ظل انحلال تلك المؤسسات لملء الفراغات التي خلفتها في مجتمع يتراجع بثبات إلى الحالة السابقة لنشوء الدولة والمجتمع الحديث، أزمات اقتصادية واجتماعية مستعصية على الحل، انقسام طبقي شديد الحدة (وتسبق مصر كثيراً من الدول العربية في مدى وضوح وفجاجة هذا الانقسام) مع انحدار متسارع للفئات الوسطى، مجتمع شاب (من حيث التصنيف العمري) يَغرقُ شبابه في الفقر والبطالة والتطرف والإدمان...

في هذا الظرف التاريخي يصبح تآكل خطاب السلطة (بمفهومها الواسع) سياسياً واجتماعياً وثقافياً الظاهرة الأبرز؛ لغة عتيقة فقدت تماسكها الداخلي، ولم تعد قادرة على إقناع صائغيها أنفسهم، أما صناعة «إنسان السلطة» فلم تعد مهمة «المؤسسة وخطابها» بل صارت مهمة «العنف المحض»، والبقية تلقى على عاتق البنى الاجتماعية التقليدية (العائلة، العشيرة، الملة) التي تؤدي دورها بتناسق بنيوي مع عنف السلطة... الشباب هنا (وخاصة أبناء الفئات الوسطى والدنيا) هم الشريحة الأكثر استهدافاً، فهم الخمر الجديدة التي يجب حشرها في الجرار العتيقة، وآليات الاستلاب الفكري والاجتماعي تظهر نتائجها بينهم بأكثر أشكالها فعالية وبشاعة.

إلا أن عاملاً لم يُحسن تقديره دخل الميدان ليقلب الكثير من المعادلات، فثورة الاتصالات والمعلومات منحت تلك الكتلة الهائلة من البشر المستلبين إمكانية للتواصل وتبادل الأفكار والتنفيس عن تراكم مرعب من الكبت، عندها نشأت لغة (أو بالأصح تأتأة ما قبل لغوية) هامشية مضادة للغة السلطة. الكثيرون شدوا شعرهم غيظاً وهم يقرؤون ذلك الكم من الرداءة والقذارة والإسفاف التي تمتلئ به مدونات الشباب ومنتدياتهم على الإنترنت عندما يتحدثون عن أية قضية اجتماعية أو سياسية أو فكرية، ولكن أحداً لم ينتبه إلى أن تلك الرداءة والإسفاف تحملان في طياتهما صرخة بدائية يطلقها أي كائن حي يتعرض لتدجين متوحش... ثورة على منظومة كاملة من المفاهيم والأفكار والرؤى التي أثبت التاريخ فشلها، ومازالت رغم ذلك اللغة الوحيدة التي يمكن النطق بها... قطيعة مع  العقلية الأحادية الذي تحملها السلطة (والمفهوم هنا يشمل فيما يشمل الأنظمة ومعارضيها)... إحياء للمقموع والمسكوت عنه وما لا يكمن قوله... احتفاء بالركاكة والخفة واللامبالاة في مواجهة عمق واتساق وجدية كاذبة لا يوجد في أغوارها إلا العفن... أولئك الشباب لا يملكون البديل لكنهم يرفضون السائد، والصرخة البدائية صارت تأتأة، والتأتأة قد تصبح غداً لغة متماسكة تعبر عن حراك اجتماعي من طراز جديد، تساهم تلك اللغة المكتسبة في زرعه جنيناً في أحشاء المجتمع. 

النضال على «face book»!

اندلعت الشرارة في مصر من التجمعات العمالية؛ إضراب مطلبي كبير (وإن كان محدود الدلالة السياسية في البدء) فجَّر الكثير من الاحتقانات في المجتمع المصري، هنا وجد العديد من الشباب أن الخروج من الفضاءات الافتراضية ممكن، وأن هناك وضعاً على الأرض يمكن تفعيله لإطلاق الصرخة التي طال كبتها. هكذا أعلم صديقنا كريم البحيري (العامل الشاب الذي استهللنا حديثنا بكلماته) أصدقاءه عبر الإنترنت بأنه ذاهب لتغطية الإضراب، وخرج ليواجه آلة القمع التي كانت تفتك بالمضربين، وبهذا الأسلوب خرج آلاف الشباب في كل أرجاء مصر ليحولوا إضراب المحلة من إضراب مطلبي جزئي إلى يوم وطني للتظاهر والإضراب والثورة وسط ذهول الأحزاب السياسية التقليدية، ليكون يوم 6 نيسان 2008 الذي هزَّ العالم العربي، رغم كل اللامبالاة المتعمدة التي استقبل بها من المؤسسات المكرسة عربياً، ومحاولاتها للتبخيس من شأنه وأهميته.

لم ينته الموضوع  عند هذا الحد، فانتهاء الإضراب كان بدايةً لنشوء 6 إبريل حركةً اجتماعيةً من طراز جديد، فبعيداً عن الأحزاب والنقابات المصرية التقليدية كان حاضن 6 إبريل الأساسي هو الـ«face book» الذي نشأت عليه عشرات المجموعات الشبابية الساعية للحفاظ على روح يوم 6 نيسان... لقد وجد الشباب ما يتمسكون به أخيراً، واللامبالاة صارت حركة اجتماعية افتراضية يمكنها رغم افتراضيتها أن تصبح حقيقةً على الأرض، ومن «face book» و« twitter» وغيرهما من المواقع والمدونات تم الإعداد لعشرات التظاهرات والاعتصامات والنشاطات السياسية التي أعقبت يوم الإضراب الكبير.

غابت الأيديولوجيا والتجانس الفكري والتماسك التنظيمي عن حركة 6 إبريل، ولكن هذا كان إحدى نقاط قوتها لا ضعفها، فهاهم شباب الحركة بوقاحتهم المعهودة يجعلون من الكلمات التالية شعاراً لمجموعتهم على «face book»:«من حق جيلنا أن يجرب .. فإما أن ينجح .. أو يقدم تجربة تستفيد بها الأجيال الأخرى»، إنها تجربة... «افتراض»... صيرورة لم تتجمد بعد، لذلك  يخشاها الطغاة بشدة، ولذلك جندوا كل ما في جعبتهم من عنف وبربرية لقمع تحركها الذي شهدته شوارع القاهرة قبل أيام في الذكرى الثانية لانطلاق حركة 6 إبريل.

عندما اندلعت الانتفاضة الشعبية العفوية في مصر («إنتفاضة الحَرَميِّة» كما سماها السادات) في 18 شباط عام 1977  قال أحد الناشطين السياسيين اليساريين: «لقد ضبطتنا الجماهير ونحن نمارس الاستمناء الفكري في الغرف المغلقة»، فبأية حالٍ سيُضبط أساطين العمل السياسي- الاجتماعي التقليدي اليوم؟!!

آخر تعديل على الإثنين, 11 تموز/يوليو 2016 15:39