أحلام مستغانمي و«نسيان»... الكتابة من موقع العرّاب
لأشهر يتصدر «نسيان» المكتبات والقلوب، ويتمدد في الصباحات الصفراوية للعاشقات المهزومات، تحت الوسادة، بجانب السرير، أو قبل فنجان القهوة الصباحي، على أهبة استنفاره لنجدة مستعجلة تكسر قلب الرجل العربي الشرقي الشهريار المارد الشبح الخائن الذي يبدل النساء كما يبدل الأحذية، وإلى آخر ما أردتن من صفات، أو ما أرادت منقذتكن!!
وتُلتهم تلك الصفحات بالمقابل التهاماً منكم أيها الرجال، وبالسر غالباً، لتتلصصوا على ما تثرثره النساء بحقكم، وما يدور في رؤوسهن من مخططات انتقامية، خاصة أن الغلاف يشي بالكثير، ويدعو بحظره المبطن الرجال لمشاركتنا هذه الجلسة النسائية المغلقة ولكن على مبدأ «الحكي إلك يا كنة، اسمعي يا جارة» كما تقول أمي!!
ولأشهر تتحول مستغانمي من الغزال الرشيق الذي جمع الحب والأدب في ثلاثيتها الروائية التي كانت ضفيرة رائعة زينت سحر الرواية و أنوثتها، إلى شيخة طريقة في مذهب «النسيان»، تتربع في غرفة شرقية وتمد أمامها البخور وتستقبل سيلاً هائلاً من المكسورات والمقهورات والمنفيات لماضي تنصل الرجل منه ولا زلن على أطلاله، وتقدم لهن وصفات الصلاة والصيام وقائمة بالأدعية الناجعة المصنفة حسب الحالة.
كنا نتوقع حين حمل لي صديق كتاب «نسيان» هذا أن سيدة اعتدنا تذوق أسلوبها بالكثير من الخصوصية تطل بإطلالة جديدة الآن، لتشاكس الحب والنسيان بذكاء أنثوي عبر لعبة أدبية في هذه السطور، وبدأنا نقلب الصفحات سوية، وننتقي ونشاكس عبر العناوين والسطور، ولم يطل الأمر بنا حتى استقبلنا صمت الخيبة.
كانت ردة فعلنا الوحيدة، أن ابتسمنا، وتبادلنا نظرات متقطعة لبعضنا، ولم نعلق. كنا نندهش أمام ما حملتها تلك السطور من صيغ لم تشبه سوى بيان انتخابي، أو تبشيري، ويستند على نقطة قوة وحيدة هي هذا الكم الهائل من العلاقات الفاشلة والقلوب المنكسرة في مجتمعاتنا، بالإضافة إلى ذلك لم يكن فيه ما يجعل «الرجل الرجل» يخشى شيئاً بحكم العادة، فالكتاب كالجلسات الصباحية التي تعقدها زوجته يومياً مع أمها وجاراتها، حيث تنتفن ريش الرجل، ثم تعود كل منهن بقمة الطاعة قبل موعد الغداء لتمارس واجباتها المنزلية على أكمل وجه؟!
كنا نتساءل: ماذا يقدم هذا الكتاب لنا كنماذج ناضجة لرجل ولامرأة لا تعاني حياتهما العاطفية من ذاك التقسيم الغريب بين الرجل والمرأة، ولا نتدبر أمور حبنا وعلاقاتنا عادة بالمكائد والخطط والحسابات، ولا نحتاج لدليل طوارئ نحفظ أرقام صفحاته غيباً كلما انقلب علينا الحب وكشر عن أنيابه؟ وماذا يقدم للفاشلين في علاقاتهم؟ماذا يقدم الكتاب للحب؟ أو للنسيان؟ بقداستهما كمفهومين. فالحب لا يدرس كحلقات الدين أو مرتادي المعاهد الخاصة، ولا يثار على ظلمه بالتحريض و حشد الرعية، كما أن النسيان بريء ضمناً مما كان ينسج عبر الصفحات، فالنسيان كظاهرة صحية ونفسية وعلاجية، هو تجاوز واع مدرَك، وليس انتشالاً لضحايا، يحترفن الغياب لعدم إتقانهن الحضور، ويشهرن أسلحتهن في وجه رجل غادرهن أصلاً، ويرتمين في حضنه عند أول عودة.
وأية صفة تلك التي نصبت بها سيدة الكتاب نفسها قيمة على مشاعر النساء وعلى علاقاتهن، وهي تقفز عبر السطور وتملأ رأسنا بالثرثرة والنصح السالك نبرة الوسواس والوشوشة مستعينة بكم هائل من المقولات لكبار الكتاب والمفكرين، ومنددة بالأنظمة الحاكمة والحكام والرجل المستبد، وهي بالمقابل تجمع كل هذه الرعية من النسوة لتحادثها بلهجة: «برافو يا شاطرة» و«يا ولية» و«يا مرا».. ماذا يقدم الكتاب لمن استهدفهم، علناً وضمناً من نساء ورجال؟ هل قدم للنساء جبروت الاستغناء عن الرجل، وللرجل فكرة أننا قادرات؟ ماذا قدم للرجل النسر؟ استغناءنا عنه، وتفضيلنا للرجل الفيل؟ ومن الذي نالته الإهانة أكثر هنا بربكم؟ وهل دعت الكاتبة إحدى المكسورات، لأن تسأل نفسها: لمَ تراه غادرني؟ أو لماذا يتعافى الرجل بسرعة من حب لا يوفره إذ يتواجد ولا يبقى أسيره إذ ينتهي، بينما تعيش المرأة حبها بالتقنين وتعوضه بعد الغياب بالاجترار؟ ثم بعد هذا عليكن أن تمضين التعهد.
إن كانت الأزمة يا سيدتي أزمة حب ونسيان، فهي أزمة تخص الطرفين، رجالاً ونساء. وإن كانت أزمة مجتمع، فلنحاكم كل مستنقعاتنا الاجتماعية التي نحملها في موروثنا، ولا ندخل علاقاتنا بريئين منها، قبل أن نحاكم الحب بالنسيان. وإن كانت الأزمة أزمة طرح أدبي فثمة الكثير مما يدعو للتوقف عنده قبل أن تهبط علينا تعليمات الأجزاء القادمة.