غسان كنفاني الحاضر.. الغائب!
«لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة، وكان دائماً يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك أن الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم. أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى، فقد كنت أريد أرضاً ثابتة أقف فوقها، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء.. سأظل أناضل لاسترجاعه لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد.. لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب، وجذور تستعصي على القلع».
•غسان كنفاني
تبرز أهمية غسان كنفاني الذي تمر ذكرى استشهاده على يد الموساد الإسرائيلي في الثامن من شهر تموز، لكونه وثّق فنياً مرحلة التهجير واللجوء، وتجاوز خطاب التفجع والبكاء وانتظار الإغاثة، مؤسساً لفكرة المقاومة في أعماله. كانت حياته القصيرة وإبداعه أقرب إلى عاصفة في التعبير عن حالة الشغف بالحياة، تماهت تجربته الشخصية مع التجربة الجمعية إلى درجة يصعب فصل الواحدة عن الأخرى. وهو يشكّل حالةً استثنائيةً في اقترابه المباشر من حرارة التجربة وكتابتها، من دون أن تحترق أجنحة الفنّ في كتابته.
«رجال في الشمس»
لم يبق التساؤل الشهير: «لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟» في رواية غسان كنفاني «رجال تحت الشمس»، مجرد عبارة في رواية تحمل الهمّ الفلسطيني، ربما يصلح هذا التساؤل اليوم شعاراً لتوصيف الكثير من أشكال الموت، الموت قتلاً أو قهراً أو لجوءاً.
طابقت القصة التي حدثت في الرواية قبل أكثر من نصف قرن، كثيراً من القصص التي راح ضحيتها عشرات اللاجئين والهاربين من الموت، فالقصص كثيرة والموت واحد، رجال ونساء وأطفال في عرض البحر، وآخرون في شاحنة حقيقية اتخذت وجهة جديدة هذه المرة! حقائب سفر أو صناديق مشحونة في طائرة أو سفينة إلى بلاد اللجوء الكثيرة، أشكال كثيرة وعناوين مختلفة يجمعها الموت.
«أبو القيس» أولى الشخصيات التي تعرضها الرواية، رجل فقد بيته وشجرات الزيتون التي يملكها وأصبح يعيش مع زوجته وابنه في المخيمات، ورغم أنه يحلم بعودة ما كان، لكنه في النهاية يستجيب للضغط الذي يمارسه عليه أحد العائدين الأغنياء وحالة الفقر المدقع التي يعانيها، يسافر إلى العراق محاولاً أن يجد فرصة ليهرب عبر الحدود العراقية الكويتية من البصرة إلى الكويت، حالماً بالحصول على النقود التي يبني بها بيتاً ويشتري شجرات زيتون جديدة!
أسعد المطارد، الشخصية الثانية في الرواية، شاب مناضل تطارده السلطات بسبب نشاطه السياسي، أما «مروان» فهو فتى في المرحلة الثانوية يضطر لترك المدرسة والذهاب إلى البصرة ليدخل منها إلى الكويت بمساعدة المهربين حتى يعمل وينفق على أمه وإخوته الصغار..
القيادة العاجزة الانتهازية!
«أبو الخيزران» سائق ماهر، عمل في الجيش البريطاني، وعمل مع الفدائيين فأصيب بقنبلة أفقدته رجولته وأعطته كل مرارة العالم، فكره نفسه، وجعل كل طموحه في تكوين ثروة.
يقدم غسان كنفاني شخصية «أبو الخيزران» كنموذج للقيادة العنينة الانتهازية التي تدعي التفكير في المجموع في حين أنها تسعى إلى مصالحها الشخصية ولا تأبه بالآخرين ومشاكلهم.
يتفق أبو الخيزران مع الثلاثة، لينقلهم في سيارة نقل مياه قديمة متهالكة وبها خزان ضخم فارغ، حيث سيختفي فيه أبطال الرواية الثلاثة ليعبروا نقطتي الحدود العراقية والكويتية. يبقى اثنان فوق الخزان ويجلس معه الثالث، وهكذا بالتبادل طوال الطريق في صحراء ترسل شمسها لهيباً قاتلاً، وقبل أن يصلوا إلى نقطة الحدود بخمسين متر يدخلون الخزان، وعليه أن ينهى الإجراءات فيما لا يزيد على سبع دقائق ثم يسرع بالسيارة ليخرجهم من الخزان بعد 50 متراً من نقطة الحدود.
وتنجح الخطة في نقطة الحدود العراقية، يختبئون في الخزان، يكادون يختنقون، ولكن يمر الأمر بسلام، وعند الاقتراب من نقطة الحدود الكويتية يعطل موظف عابث «أبو الخيزران»، فيتسبب في موت الثلاثة اختناقاً في خزان المياه بسبب تأخر «أبو الخيزران» عليهم.
لماذا لم تدقوا الجدران؟!
يفكر أبو الخيزران في إلقاء جثثهم في الصحراء لكنه يتراجع حتى لا تنهشها الضواري ويقرر أن يلقي بها فوق أول مزبلة يقابلها على الحدود ليسهل اكتشاف الجثث ويتم دفنها، وبعد أن يلقي بهم فوق المزبلة ويسير قليلاً.. يعود ليجردهم من الساعات والأموال.. وينطلق بسيارته مبتعداً وهو يتساءل بدهشة: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ وتردد الصحراء النداء.
يدين غسان كنفاني في روايته الأطراف التي تسببت في نكبة فلسطين كلها، القيادات العاجزة، والخائنة، وأولئك الذين تخلوا عن الأرض ليبحثوا عن خلاصهم الخاص!!
“رجال في الشمس» رواية قصيرة لكنها محكمة، ليس بها كلمة واحدة زائدة أو موقف بلا معنى أو عبارة إنشائية، والكاتب لا يلجأ للشعارات أو المباشرة، ولكنه يوضح موقفه من خلال السرد الروائي الذي تتداوله شخصيات الرواية والكاتب، كما أنه يعتمد بشكل كبير على المنولوج الداخلي في سرد الأحداث، وواضح أيضا أن الكاتب استفاد من تقنية السيناريو السينمائي فحكى روايته بالصورة قبل كل شيء آخر، ولعل هذا من الأسباب المهمة التي جعلت المخرج المصري توفيق صالح يتحمس للرواية ويقرر أن يصنع منها فيلماً.
المخدوعون..!
حاول فيلم «المخدوعون» المأخوذ من رواية «رجال في الشمس»؛ أن يكون أميناً مع العمل الروائي، وقد التزم المخرج بالعمل الروائي وتفاصيله وبرسمه للشخصيات وتسلسل الأحداث فيه إلى حد كبير. حصل الفيلم على الجائزة الذهبية بمهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية سنة 1973، واختير كواحد من أهم مائة فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية.
هؤلاء الرجال ماتوا وهو يبحثون عن خلاصهم الشخصي بعيداً عن المكان الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه، ماتوا وهم يبحثون عن الفتات في مواجهة الثراء الفاحش المتمثل في خزانات النفط.