بين قوسين: السلة المبخوشة!
هذه المرة سألتقي سائق تاكسي أتى من الجزيرة السورية للعمل في دمشق، بعد أن فقد الأمل تماماً في مواجهة البطالة.
سأتعرف عليه من لهجته أولاً، ثم من ذكريات مشتركة عن حي عشوائي كنت أقطنه أثناء الدراسة الإعدادية. يروي بأسى كيف فقد مهنته الأساسية كعتّال في مخازن الحبوب، بعد أن تراجعت مواسم الحنطة وعمّ الجفاف المنطقة، ثم سيروي لي ذكرياته السعيدة حين كان سائقاً لميكروباص على أحد خطوط الضواحي، ولأجل حظه العاثر تم إلغاء الخط، فاضطر للعمل كسائق تاكسي، فتراجع دخله إلى أقل من النصف، وسيذهب نصف الدخل مقابل غرفة في الدحاديل، أما ما وفره من نقود شحيحة من عمله على الميكروباص، فقد اضطر إلى صرفه لشراء طقم أسنان لوالدته في زيارتها الأولى للعاصمة. كنت أتساءل وأنا أدله على المكان الذي ينبغي أن أذهب إليه، هل سوء الطالع وحده قاد هذا الرجل إلى هذا المصير البائس، أم أنه ضحية غياب الخطط الحكومية الإستراتيجية في تنمية المنطقة الشرقية؟ عبارة «تنمية المنطقة الشرقية» تتردد كثيراً في وسائل الإعلام خلال السنوات الأخيرة، وإذا بالمقصود فعلياً بالتنمية هي مجموعة اجتماعات لخبراء في غرف مبرّدة، لا تجد طريقها إلى الأرض، أو إنها تتجسد على شكل هجرات إضافية لقرى كاملة إلى عشوائيات العاصمة ومدن الجنوب السوري في مخيمات وسط العراء. هكذا نكتشف أن سلة الغذاء السوري «مبخوشة» لمئة سبب وسبب، ليس جفاف نهر الخابور وحده من صنع هذا الواقع البائس، كما يتردد في وسائل الإعلام، بل الإهمال وعدم الجدية في تنفيذ الخطط. هناك عشرات القرى العطشى التي كانت يوماً ما شريطاً دائم الخضرة، وإذا بها تتحول إلى هدف للعجاج، بعد أن استولى من استولى على البادية وأضحت من دون مصدات طبيعية للرياح. منذ سنوات أفكر بزيارة الجزيرة، لكنني كلما أقابل صديقاً من هذه المنطقة المنكوبة، أقنع نفسي بتأجيل هذه الزيارة، لسبب عاطفي صرف: لا أريد أن أقف أمام نهر الخابور وقد تحوّل إلى ساقية جافة. الخابور الذي كنا نخشى الغرق في مياهه الهادرة، وشاطئه الكثيف بالزل. الخابور الذي شهد طفولتنا البعيدة وذكرياتنا البهيجة. اليوم لاشيء يدعو إلى البهجة!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.