هنا الوطن..
هنا تحالفت سينما التوثيق الكاذبة وتلفزيون الواقع المنحرف، هنا تحالف التمويل والتهويل لصنع حربنا القاتلة، هنا تحالف القتل والدمار ومصانع السلاح، والاستبداد وأصحاب ربطات العنق والياقات البيضاء، تجار كبار وفاسدون ومتنفذون، تعبر مصالحهم الحدود كلها، لتحتل ما بقي في حياتنا من مساحة.
هنا الصراع على أشده، على بقاء الأوطان وعلى بقائنا، هنا يساومونا على الانتماء من أجل البقاءّ وقد يفسحون المجال أمامنا لنهيل التراب على أمواتنا، ولكنهم يمنعونا من أن نهيله على أوهامنا وخرافاتنا وجهلنا! فهنا كُمت الأفواه على سَبْينا واستعبادنا، حتى الأنين والتأوهات غُيبت في منافي العقل، وخلف القضبان، وفي المهاجر، وعلى قارعة التشرد والمجهول.
هنا.. يريدون منا أن نرقص على أشلائنا، لتغدو الصورة أجمل، ففي بازارات النخاسة تغدو ريعية الدعايات أهم من دمنا المُراق، هنا تتوالى الصور لتكثف المأساة، صورة إيلان المرمي على شاطئ مهجور، وخلفها صورة لشاحنة الموتى بين الحدود، وأمامها صورة فتاة تبحث عن أشلاء أهلها وسط الدمار، وصور أخرى يظهر فيها الموت معلناً عن نفسه بكل وقاحة، الموت المجاني، قتلاً وحرقاً وغرقاً وقهراً.. لا فرق، يبتسم الموت في الصورة إذ يأخذ حصته كاملة من المسحوقين والمقهورين، لا يأبه للجنون الذي يعصف بحياتنا ويجتاح أرجاء البلاد.. وهنا أيضاً وليس هناك دعاية البيبسي والكولا وماكدونالدز.. حريم السلطان وباب الحارة، ومطاعم المالكي وسوق الحمرا..
هنا فوضى القتل والدمار، حيث تدمّر المشافي والأسواق والمدن على آهاليها، الإفقار والجوع بذريعة الحرب والحصار، وهنا يغتني تجار الحروب والفاسدون الذين يحاصرونا من كل حَدْب وصُوْب، تشبيحاً وتعفيشاً، وهنا سِقْط مِتاع التاريخ، يسبحون بحمد آلهة الفجور.
هنا مشاريع إعادة الإعمار المنظم، وقوانين التجارة الحرة، ومجالس التشريع والتنفيذ، حتى بقايانا، وبقايا أثمالنا لم تسلم من عفونة تجارتهم، فاستباحوها. هنا حيث اختلطت رائحة القهوة برائحة الموت والقهر، ونكهة الهيل بنكهة الدم المسفوح والمستباح..
وهنا الوطن..
الفقراء والجوعى والمحرومون والمهمشون، هنا الشجاعة في مواجهة الصبح المدمى كل يوم، وعلى هذه الأرض امتزجت دماءنا التي كانت عصية عن التقسيم حسب الرغبات، فأهدروها. هنا من يسعى للملمة مِزق لحمنا المنثور في البلدان على شكل أجساد وأسماء وأرقام.
هنا تجمعنا تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة والكبيرة. هنا نهرب من البكاء والجوع، لنبدع فرحة، ولو مصطنعة، لنطلق لحناً أو لنؤلف نكات التهكم. هنا نصنع الحياة من الموت، ونبدع اللحن من القهر ونطلق أناشيد التهكم على القاتلين.
هنا تمرغنا بالتراب وفي الأزقة، كبرنا وشبنا، وهنا يلهو أطفالنا مع الموت والجوع والتشرد كأنها لعبة، وهنا أعلنا بأننا لن نرقص للشياطين وأبالسة الدهر أو معهم، وهنا وقفنا رافضين لكل مساومات الخبث ومن خلفها.
هنا نتقاسم الرغيف والملمات والأفراح، كما نتقاسم الطرقات والحواري والأزقة، نفضح كل مستور، ونعري كل مستبد، ونطرب لكل دعوة فيها محبة وألفة، وهنا نختصم ونختلف ونتفق، وننظر للأفق بعينين ملؤها الأمل، هنا من يُعلّي الوطن على الجراح، ليبقى الوطن.