ما هو التطبيع؟ ومن هو المطبّع؟
شكّل الاتهام بـ«التطبيع مع العدو الصهيوني» منذ ظهوره كمصطلح أواخر الستينيات، أحد أهم وأخطر الاتهامات التي يمكن أن يُقذف بها المثقف العربي، سواء أكان أديباً أو مفكراً أو فناناً أو سياسياً، فهذه «التهمة» وهي بمرتبة الخيانة العظمى في الضمير العام، لم تكن تعرّض المرمي بها للحرق ثقافياً واجتماعياً ووطنياً فحسب، بل كانت كفيلة بهدر دمه أيضاً، حتى قبل إثباتها..
لذلك فإن تبادل اتهامات من هذا النوع انحصر تاريخياً بالدول التي انقسمت بين مطبّع وغير مطبّع وبين بين، وببعض الأسماء «المرموقة» التي جاهرت بالتطبيع أو انجرفت إليه في منجزها أو مواقفها، ولم يكن شائعاً بشدة بين عموم المثقفين، وخصوصاً في سورية، وظل استخدام هذه «الوصفة» القاتلة يقتصر غالباً على جهات ومؤسسات وشخصيات «شبه مسؤولة»، تلجأ إليها عند «الحاجة» في نزاعها مع المختلفين معها بالرأي، لتبرير قمعهم أو تهميشهم، ويتم عبر وسائل الإعلام فقط، بعيداً عن تدخل الجهات المسؤولة ذات الصلة بالمساءلة والمحاسبة..
اليوم، ولأسباب قد يصعب حصرها بدقة، أصبح الاتهام بالتطبيع حاضراً في معمعة المهاترات اليومية لبعض المثقفين السوريين، يرمون به الآخر، أي آخر، لأي سبب أو دون سبب أو ذريعة أحياناً، وكأنه سبّة ليست لها أية استطالات أو تداعيات أو معان خطيرة، شأنها شأن اتهامات أخرى مثل «عديم الموهبة»، أو «لص أدبي»، أو «مثقف سلطة»... مما يوحي بأن الاتهام بالتطبيع لم يعدْ يعدّ شأناً خطيراً يمكن التوقف عنده أو مساءلة المتورط فيه أو الزاعم بوجوده.
فالمتتبع للحالة الثقافية السورية الغارقة بالتردي بمعظمها، سيصطدم بأحدهم وقد رمى تهمة التطبيع بحق شخص ما ليحجز لنفسه مكاناً في إطار ما، وسيفاجئه آخر امتطى الحصان نفسه ليحظى بعضوية بدرجة امتياز في منظمة شعبية شبه خالية من الأعضاء المميزين، وثالث لينال موقعاً رفيعاً في منبر إعلامي قديم أو جديد. أما دواعي ذلك فغالباً ما تكون شائعة بقيام المتهم بحضور فعالية تضم «إسرائيليين»، أو المشاركة في مهرجان ثقافي يحضره مندوبها، أو وقوفه إلى جانب «إسرائيلي» في ملتقى دولي... وتأخذ هذه الاتهامات شكل موجة عارمة عند حصول أديب ما على جائزة ما، فحينها يهب كثر ممن كانوا يتمنون الجائزة لأنفسهم أو لـ«شلتهم»، فيشرعون بالتخوين والتجريم، وشتم الجائزة ومانحيها والحاصل عليها، مذكّرين الساهين ببطولاتهم وأمجادهم الدونكيخوتية في الدفاع عن الوطن وعن الثقافة الوطنية، وبتاريخهم العريق في مناهضة الصهيونية.
في هذا السياق، وجّهت حراب الاتهام بالتطبيع مؤخراً إلى الأديب خليل صويلح الذي فاز بجائزة نجيب محفوظ للرواية، ونُشرت مقالات كثيرة في الصحافة الورقية والإلكترونية، ودارت ثرثرات نهمة تتهمه بالعمالة والخيانة وتطالب بمعاقبته، بحجة أن الجائزة المذكورة مشبوهة ويشرف عليها داعمون للكيان الصهيوني، ومطبعون معه، دون أن يدرك أغلب مهاجميه أن التهمة نفسها قد تطالهم يوماً من دون وجه حق مع غياب المعايير التي يمكن أن تشكل الحد والبوصلة لعدم التعرض لهذه التهمة.
ففي ظل الخواء الثقافي السائد، ومع انعدام وجود حواضن وطنية حقيقية للمبدع تدعمه وترعاه وتكرمه، ومع تلكؤ المؤسسات الثقافية في تحديد مهامها ومسؤولياتها وتوجهاتها ومشاريعها، وعدم قدرتها على وضع ضوابط ومحاذير وخطوط حمر، والذي يرافقه من المقلب الآخر نشاط واسع واستراتيجي للدوائر الثقافية الصهيونية، يمكن للجميع أن يصبحوا فجأة عرضة لاتهامات تخالف قناعاتهم ومبادئهم الوطنية..
والحال كذلك، فقد أصبح من الضروري التساؤل جدياً عن معنى التطبيع؟ ما هي حدوده؟ من هو المطبّع؟ كيف ومتى يتم التطبيع؟ ما دور الجهات الثقافية والسياسية في تحديد بؤره ومنابره وفخاخه وجوائزه؟
ثم، لماذا لا توجد حتى الآن جوائز وطنية (محرزة) تدعم المبدع الوطني؟ أم أن معسكر الرافضين للتطبيع لا يرى أهمية للأدب في مواجهة الخطر الصهيوني؟
منذ نحو ثلاثة أعوام، أثرتُ من خلال هذه الصحيفة موضوع (music in me) المنغمسة فيه وزارة الثقافة، عبر إحدى المؤسسات التابعة لها، حتى أذنيها، وهو مشروع تطبيعي خطير بكل معنى الكلمة، ولكنه مر مرور الكرام دون أن يثير لدى معارضي التطبيع أية زوبعة.. فلماذا هذه العاصفة المفتعلة اليوم حول صويلح؟ هل الغيرة الوطنية مسألة موسمية ومزاجية وانتقائية لا تظهر إلا في المناسبات لأسباب شخصية، أم أنها هم يسكن صاحبه فلا يفارقه أبداً؟؟