جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

بين قوسين نخاسة إمبريالية..

يملك بعض فقراء الأرض بالإضافة إلى قوة عملهم الذهنية والعضلية، قيماً عينية محدودة: بيوتاً صغيرة، سيارات عتيقة، أثاثاً منزلياً متواضعاً، حليّاً رخيصة قدموها لنسائهم كمهور، أراضي زراعية مقطّعة الأوصال ورثوها عن أجدادهم في الأرياف النازحين عنها.. أما المثقفون منهم فيمكن أن يضاف إلى كل ما سبق، مكتبة قديمة جمعت على مهل وصبر من الأرصفة والمعارض السنوية، تحفاً تراثية، لوحات وتماثيل فنية أهداها لهم بعض أصدقائهم الفنانين قبل أن يصبحوا أثرياء ومشاهير...إلخ.. وعند الحاجة القصوى التي كثيراً ما تباغتهم بسبب مرض أو سفر أو فاقة أو بطالة أو غلاء عام فاحش، يضطرون لعرض بعضها أو معظمها للبيع بأبخس الأثمان.. هكذا كانت أمور الفقراء تسير على الدوام، وهكذا ظلت «الثروات» البسيطة وهي مفرّقة، الواسعة مجتمعة، تنتقل من أيديهم إلى أيدي الأغنياء لتستقر عندهم إلى الأبد..

وإذا كانت هذه حال الناس عموماً، فإن حال الدول لا تختلف من حيث المبدأ بشيء، فبعد الأفول المؤقت لعهد الاستعمار بمعناه التقليدي.. راحت الدول الفقيرة المحكومة بالتخلف والاستبداد والتبعية تبيع الدول الغنية بالإضافة لخيرة قواها البشرية المنتجة ذهنياً وعضلياً، كل القيم العينية التي تملكها بسعر بخس، سواء بطرق شرعية أو غير شرعية: الثروات والخامات والآثار والتحف والمحاصيل، وحتى الأطفال والنساء..إلخ..

المختلف اليوم، وهو ما لا سابق له في التاريخ، أن الفقراء عموماً، دولاً ومجتمعات، لم يعد لديهم عينياً الكثير مما يمكن بيعه، وأن الأغنياء عموماً الغارقين في أزمة نظام اقتصادية– اجتماعية- إيديولوجية جامحة، لم تعد ثروات الأرض تكفي نهمهم وتنافسهم فيما بينهم لإيقاف اندفاعهم الذاتي- الجماعي نحو الهاوية، لذلك فإن عروض البيع التقليدية بتنوعها أصبحت قاصرة، وبات على الفقراء أن يبيعوا المزيد..

على المواطنين السوريين الفقراء الذين باعوا أراضيهم وبيوتهم وحليهم ومكتباتهم في السنوات العجاف الماضية أن يبيعوا أنفسهم وقيمهم وأحلامهم كلياً للمستثمرين الجدد، وأن يسلّموا بأن قدرهم أن يصيروا خدماً دائمين للكبراء المقيمين والوافدين، وعلى اليونان أن تتخلى عن سيادتها الوطنية عبر بيع بعض جزر أرخبيلها الدافئ والاستراتيجي لألمانيا، وعلى مصر النظام أن تستمر في بيع دم أبنائها لمرضى اللوكيميا في تل أبيب انتظاراً لأوامر بيع جديدة، وعلى أمريكا اللاتينية الناهضة التي باعت أنظمتها الدكتاتورية معظم شواطئها وغاباتها ومناجمها وحقولها لليانكي الأمريكي أن تكف عن محاولة استردادها، لأن المطلوب هو بيع المزيد، وعلى البحار أن تبيع حيويتها لتجارب نووية جديدة... وهكذا..

كل شيء في عصر الرأسمالية قد يصبح سلعة رخيصة، بما في ذلك الكرامة والسيادة.. ولن ينتهي هذا الجنون إلا بتوقف الفقراء عن البيع الرخيص..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.