نوستالجيا
اصطلاحا، نقول في عصرنا، إن "الحنين" هو "النوستالجيا". في اليونانية: "نوستوس" أي العودة، أما "ألغوس" فهي المعاناة. في روايته "الجهل"، يميل ميلان كونديرا إلى القول "إن النوستالجيا هي إذاً المعاناة الناتجة من الرغبة غير المشبعة بالعودة". ويضيف: "وهي عادة ما تعني الحزن الناجم عن استحالة عودة المرء إلى بلده الأصلي".
أعدت قراءة "الجهل" منذ أيام. ربما لأن الوعكة الصحية التي طرحتني الفراش منذ أيام، جعلتني أفكر بالتجوال والسفر البعيد. لا سيما الأخبار الأمنية المتواترة. إذ يروي كونديرا في روايته عن عودة شخص ("عودته") إلى بلاده بعد غربة طويلة في "المنفى"، لكنه لم يستطع التأقلم فقفل راجعا من دون أي حنين إلى الماضي. حاول الكاتب أن يسترجع الماضي وذلك الزمن الضائع. وفي محاولاته هذه، وجد أن الماضي رفضه، فكانت ردة الفعل الوحيدة، رفض هذا الماضي. بمعنى آخر، إشكالية كونديرا: رفض وطنه، واختار وطنا جديدا. ألا يحق له ذلك؟
بعيدا عن الاستفزاز الذي قد يصيب البعض، لماذا لا يمكن للمرء أن يتمتع بهذه النعمة: نعمة الرفض والنسيان ونعمة أن لا تبقى "اللغة هي الوطن الذي نسكنه" (على قول فرناندو بيسوا). لا يوجد الماضي، وربما المستقبل، إلا في عملية التخييل الحنيني. وما الحنين سوى وهم من أوهامنا الكثيرة.
لا أعرف لماذا أجد سؤال كونديرا سؤالا ينطبق على قسم كبير من "ثقافتنا" التي ليست في النهاية إلا هذا الوهم التخييلي الحنيني. منذ "قفا نبك"، ونحن نحاول البحث. لماذا لم نستطع أن نرفض هذا الوهم الذي يُسيرنا، لماذا نسكن هذه اللغة التي لم نعرف كيف تسكننا؟
برأي كونديرا، "الأوديسيه" هي الملحمة المؤسسة للحنين. وعوليس أكبر مغامر على مرّ العصور. وهو أكبر "مشتاق" أيضا. شارك في حرب طروادة، وحين قرر العودة إلى "إيثاكا"، تدخلت الآلهة بدسائسها لتطيل رحلته. عشرون سنة تمرّ، من بينها سبعة (الأخيرة)، قضاها كرهينة وكعشيق للحورية كاليبسو، التي ماتت ولهاً به. وعلى الرغم من أن زوجته بينيلوب كانت أقلّ جمالا منها بكثير، إلا انه يطلب منها (في النشيد الخامس) أن تسمح له بالعودة إلى بيته... بين الحياة الحلوة في الغربة وخطر العودة إلى المنزل اختار العودة... فضّل النهاية (العودة هي المصالحة مع ما في الحياة من نهائي) على اللانهائي (ذلك أن المغامرة لا تطمح أبدا لامتلاك نهاية)... حين وصل وبعد أن أزاحت أثينا الغشاوة عن عينيه، غمرته النشوة، نشوة العودة الكبرى. "كاليبسو، آه يا كاليبسو! كثيرا ما أفكر فيها. أحبت عوليس. عاشا معا سبعة أعوام. لا نعلم كم شارك عوليس بينيلوب سريرها، لكن بالتأكيد لم يكن لزمن طويل. ومع ذلك عادة ما يُمجد ألم بينيلوب ويحتقر نحيب كاليبسو". (يقول كونديرا في روايته).
فعلا لماذا نحتقر نحيب كاليبسو؟ لماذا نتعلق دوما بألم بينيلوب، بالرغم من أنها أقل جمالا من الأخرى. متى سنخرج ليس هذا الحنين التافه فقط ، بل أيضا هذه الرغبة في التصويت حزنا؟
المصدر: السفير