مطبات: تجارة الألم

أصدر رئيس الحكومة قراراً بإقالة مدير مشفى البيروني بدمشق، ونزل القرار على صدور من ابتلاهم المرض الخبيث، كالثلج البارد على قلب محموم.

أخيراً جار القرار بعد مخالفات وصلت إلى القتل بدافع الإهمال والتسيب، أما أشد الأسباب وقاحة، فالاستهتار بأرواح تتمنى الموت ولا تجده، وتتلوى من الألم بانتظار جرعة ربما تجعل الموت على نار هادئة نهاية رحيمة.

القرار سبقته زيارة مفاجئة لنائب رئيس الجمهورية ووزير التعليم العالي، زيارة جاءت تحت عنوان (كبسة) مفاجئة، وكانت المشاهدات المثيرة للاشمئزاز، أطباء متهربين، إدارة ضائعة، ومرضى مهملين.. وما خفي أعظم.

الدكتورة العطار انتقدت بشدة الكادر الطبي والإداري بسبب الإهمال والتقصير في التعامل مع المرضى، وهذا ما قاد إلى قرار الإقالة، وكان أحد أهم أسبابها، فيما رشحت أخبار من مصادر أخرى عن سبب مباشر هو وفاة مريضة تم إعطاؤها جرعة في الجلد عوضاً عن الوريد، وبالرغم من تعالي صياحها ألا أنها تركت لتموت ببرودة أعصاب.

المشفى الذي أعدته الدولة للقيام بحمل معاناة أشد المرضى ألماً، ومعالجة أو لنقل التخفف من أقسى الأمراض البشرية وأعندها، المشفى الذي من المتوقع أن يضم في جنباته أكثر الأطباء والممرضين إنسانية، وأكثرهم رحمة من أكثر مراكزنا الصحية التي لوثها الفساد، ودارت حول كوادرها التهم والتحقيقات، المشفى الذي اتهمت إحدى إداراته السابقة ببيع جرع المرضى، والاتجار بها، وحرمان المواطنين من أدوية تشتريها الدولة، الإدارة التي سرقت بهذا الفعل أكثر من الدواء، سرقت من أجل المال أرواح الموجعين والمنذورين لموت بطيء.

الإدارة السابقة ذهبت إلى السجن، وبعض منها مات من الفضيحة، مات مفزوعاً أكثر من مريض سرطان سُرقت جرعته، والصغار المتواطئون منهم من أخفى رأسه لتمر عاصفة المحاسبة، أو تعذر بأوامر لا يستطيع عصيانها، لكن المحاسبة السابقة لم تقض على جذور الوباء الساكن في البيروني.

ليس المدير وحده من يجب إقصاؤه، الخطوات التالية يجب أن تفتش عما يدور في أروقة سرية تنهب، كتبت الصحافة عن مشكلات أخرى تنال من الممرضين أنفسهم الذين يشرفون على إعطاء الجرعات الكيماوية، وطالبوا بإعطائهم تعويضات مثل الأطباء لممارستهم أعمال تشكل خطورة على صحتهم، وهم من يتعرضون لها مباشرة لأنهم فقط من يعطون الجرعات للمرضى، هؤلاء أيضاً يستحقون التفاتة رحمة، ربما بعملهم هذا يعدّون مرضى متوقعين.

الدولة تدفع ثمن الجرعات الكيماوية الغالية، والتي لا يمكن أن يقدر عليها المواطن، لكن ما يثير الفزع أن بعض المرضى تحدثوا عن ذهابهم إلى عيادات خاصة، أو نصائح أسديت لهم من بعض طاقم المشفى بالذهاب إلى عيادة الطبيب (فلان)، والطبيب (علان)، ومريضة أجرت عملية استئصال سرطان في الرحم لدى مشفى خاص هرباً من مماطلة طاقم البيروني.

وتقول مريضة عند قراءة التحاليل التي سبقت عملية الاستئصال: «سمعت العجب العجاب، قراءات متعددة للتحاليل، نصائح متناقضة، ودعوات متعددة، لقد هربت إلى الخاص، استدان إخوتي، سحبوا القروض على رواتبهم القليلة، ولم يتركوني للموت بجرعة تحت الجلد، أو ربما بقراءة تحليل خاطئ، أو وصفة سحرية قاتلة».

اليوم يهمس البعض، ويحلل آخرون، الحكومة في طريقها لخصخصة قطاع الصحة، وفي أضعف الإيمان لن يكون هناك مستشفيات للعموم، أي بالمجان، سيحلم الفقير بطابور الدور في المواساة، سيتذكره كنعمة مفقودة، وسيتذكر بغبطة غامرة زحام مشفى المجتهد كما لو أنه أصوات سمفونية خالدة، أما الأسرّة التي تتكوم على بعضها في الغرف والممرات ستكون مجرد حلم بعيد ولذيذ.

شكراً للقرار.. لكن كم من زيارة مفاجئة من مسؤول كبير لنشهد قرارات تحذف من حياتنا هذا الركام الضخم من فاسدي المهن المقدسة.