مثـــقفون بامتيـــاز.. رســالة في البحـث عن الحــق
حين جاء الحق وزهق الباطل، لم أكن قد ولدت بعد، فلم أر المجيء ولم أشهد الزهوق، إلا أن والدي قص علي خبر المعركة الشعواء – كما سماها – وكيف أن الباطل وأعوانه دُحروا وانقلبوا أيما منقلب، على يد الحق الذي وقف مع أبنائه المثقفين – وكانوا قلة – وقفة عز وقوة وإباء!
وكم حدثني والدي عن أبناء هذا الحق وعن شجاعتهم وجرأتهم، و كيف كانوا يحاربون مع والدهم بخطبهم وبكلامهم، وبأيديهم ورماحهم إن لزم الأمر، وقال: كانوا مضرب مثل في حارتنا القديمة، وكانوا محط إعجاب الكبار والصغار، خاصة حين احتدمت المعركة، فقط أحاطوا والدهم بطوق حمائي كي لا يصاب بأي أذى أو مكروه.
علق ذلك في قلبي، وسألت والدي إن كان أحد من هؤلاء المثقفين مازال على قيد الحياة علّي أتقرب منه، فأنهل من مبادئه، وأتمثل بشجاعته، وأسير على دربه.
أظنه قال لي: لا.. فالمثقفون يقيناً قد ماتوا! ولكن انظر إلى أبنائهم أو أحفادهم، علّك تجد ضالتك فيهم.
عدت إلى حارتنا القديمة.. فتشت عن المثقفين، عن أبنائهم، عن أحفادهم، ولكن للأسف لم يعرفهم أحد. بحثت عن كبّار حارتنا العجوز، وحين جالسته ذكّرته بهم وكان بصره وسمعه قد بدآ يفارقانه..
قلت: يا سيدي، أطال الله في عمرك وأمتعك بسمعك وبصرك، وردّ لك ما فقدت من زهرة عمرك، إن كنت ذاكراً فاذكر وقفة الأبطال.. وبطولة الرجال.. وهاتيك الأعمال.. اذكر كيف كان الجهل منتشراً فأوقفوه.. كيف كان الباطل سائداً فدمروه.. كيف كان الفقر ملكاً فعبّدوه.. كيف كان الحق عبداً فأعتقوه وسيدوه وملّكوه!.
أثّرت كلماتي في هذا الشيخ الفاني، فرغرغت عيناه، واستعاد مبتغاه. قال يا ولدي:
مات كل من بقي من هؤلاء المثقفين.. ولكن انظر فلهم أبناء عمومة، إن كان لك بهم حاجة!
قلت ماذا يعملون؟ فأجابني في كل مكان هم ظاهرون، وعلى غفلة مني.. سمعت خبراً عن مثقفين يجتمعون، وعن منتدى يعقدون، وفي وسائل الإعلام يتزاورون، وفي الصحف والمجلات يتهامسون..
جئت جماعة منهم أسأل عن نسبهم وجذورهم إلى أجدادهم المثقفين، فغافلني رجل على جُنُب يقول: احذر هؤلاء فهم أدعياء. وجهني إلى غيرهم. سألت عن الأغيار فقيل أدعياء، وانتقلت إلى ثلة ثالثة فقيل مثل ما قيل في الأوليين، فضاق صدري حين علمت أن المثقفين تركوا إرثاً كبيرا جداً وما هؤلاء إلا لصوص يتبارزون لسرقة الإرث..
علمت أخيرا أن المرشحين للفوز بهذا الإرث هم الممثلون والممثلات والمطربون والمطربات، فهم أبناء عمومة أيضاً – كما يدعون - وقد ناطحوا كثيراً، وحُقّ لهم أخيراً أن يفوزوا بهذا الإرث، فالحارة الحديثة كلها ملتفة حولهم ومتأثرة بهم، ومختار الحارة الجديد يدعمهم ويحبهم!.
عرض علي بعضهم أن أكون منهم بالولاء، فأنال شرف موالاة المثقفين الجدد.
نظرت في نفسي فوجدت صوتي أسوأ من تمثيلي، ونظرت إليهم فلم أجد فيهم شبهاً مما كنت أتمنى أن أكون، ونظرت إلى حارتهم فلم أحس بالأمن فيها!.
هنيئاً للمثقفين الجدد، وهنيئاً للحارة بهم، وأسفي على جدهم الحق إن كانوا فعلاً هم الباقين الوحيدين من أبنائه!.
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.