أغنية وطنية... أزمة وطن!

أغنية وطنية... أزمة وطن!

إنه وقت الظهيرة، أناس يقطعون الشارع جيئة وذهاباً يبحثون عن أقرب وسيلة للعودة إلى البيت، ضجيج دائم في هذه الأمكنة، باعة وسيارات وأطفال وكبار في سمفونية أضافت إليها الأزمة الأخيرة نوعاً آخر من الصراخ، بسطات تسجيلية تملأ الفضاء بزعيق عجيب، والكل يغني على ليلاه بكلمات لم نعتد يوماً على سماعها، والكل تحت مسمى «الأغنية الوطنية».. لكن.. هل هي كذلك؟!

معادلة: الفراغ والرداءة

منذ بدايات الأزمة السورية، وباستثناءات قليلة ربما، أطلقت- غالبية قنوات الإعلام، الإذاعية والتلفزيونية، الرسمي وصديقاتها في القطاع الخاص- العنان لجملة من «التحف» الفنية الشعبوية، تحف ٌ يصعب انتقادها لا لقلة العيوب التي تحيط بها كمنتج فني،  بل لاستحالة إيجاد تلك المعايير الدقيقة التي يقاس بها عادة ً «المنتج الفني»، إنتاج ٌ تحاول تلك الوسائل بالجملة أن تغرق به السوق والذوق في آن ٍ واحد، منتجات ٌ بأقل وألطف تقدير لا تتعدى كونها مجرد «صراخ»، يستمد علوّه من اجتماع عدة عوامل يأتي في مقدمتها ما تشهده الساحة الفنية من غياب الفن الحقيقي المرتبط بالواقع وحياة السوريين خلال سنوات الأزمة، وندرة المحاولات الفنية التي تعكس الواقع السوري المأزوم.. فراغ ٌ تحاول تلك الأعمال البائسة انتهازه وفق معادلة «لسنا الأفضل لكننا الوحيدون..»، وهم وحيدون مع أولئك القابعين في الطرف الآخر ليقوموا بدورهم هم أيضاً بإنتاج «تحف مضادة» تقوم على استنساخ ألحان مألوفة وحتى مرموقة، وتعديل نصوصها، إما «وطنياً» من وجهة نظر بعضهم، أو «إسلامياً» من وجهة نظر بعضهم الآخر..!
والمؤسف أن انتهازية هؤلاء لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه لتحاول أن تكسب هالة «شعبية» مستمدة بدورها من شعبية وجماهيرية ما تتناوله من موضوعات وأفكار.. هكذا يصبح من السهل على هؤلاء توجيه المديح للجيش العربي السوري أو رثاء الشهيد، (أي شهيد باختلاف وجهات النظر وحقيقة الشهادة!!) على سبيل المثال لا الحصر، دون أن يتناسب مستوى أعمالهم «الرديئة» مع قدسية كل منهما. يضاف إلى ما ذكر عامل آخر لا يقل أهمية عن الأول نظراً لما يعكسه من أبعاد سياسية واقتصادية، ألا وهو دور الإعلام بشقيه العام والخاص، وحجم الضخ الهائل لهذا النمط، ضخاً يسمح لنا بالحديث عن مضمون هذا التبني وأبعاده السياسية والاقتصادية...

الفن ضمن الثنائيات الوهمية

ليس الفن– كغيره من باقي حقول المجتمع ومجالاته– سوى تجل آخر من تجليات ثنائية (معارضة- نظام)، ثنائية كانت قد بدأت منذ اندلاع الأزمة السورية عندما أعلن الفريق الأول «ثورته» لا على النظام وحسب، وإنما على الدولة السورية بكل مكوناتها، فراح ينسف مؤسساتها تحت مسمى «الثورة» باصطلاحات مثل «إعلام النظام، جيش النظام، علم النظام... الخ»، ليحتكر هذا الطرف دور «المعارض» متخذاً من شعاراته قسماً على كل من يريد المعارضة النطق به، احتكار كان من شأنه أن يسمح للفريق المقابل (أي النظام) أن يظهر هو الآخر بمظهر المدافع «الوحيد» عن أجهزة الدولة ومؤسساتها، ليحتكر تحت مسمى «التصدي للمؤامرة» مؤسسات الدولة أو «الوطن»، وهذا ما سهّل على الإعلام السوري وأصدقائه اعتبار كل منتوجه السياسي الاقتصادي الاجتماعي منتجاً «وطنياً».

«أغنية وطنية» أم «أغنية أزمة»؟

كذلك الأمر بالنسبة للأغنية التي حاول ومازال يحاول الإعلام السوري بفرعيه الرسمي وغير الرسمي تسويقها للسوريين باعتبارها «أغنية وطنية»، بينما هي في حقيقة الأمر «أغنية أزمة» تعبر عن رؤية هذا الفريق السياسي دون غيره، هذا الفريق مازال يتعامل مع مؤسسات الدولة وكأنه «المالك» لتلك المؤسسات وفق عقلية الممثل الشرعي والوحيد لها، وما يجري تسويقه اليوم ويتم قولبته تحت مسمى الأغنية «الوطنية» هو في الحقيقة أغنية سياسية، لها فريقها الداعم سياسياً واقتصادياً خاصةً وأن حجم التمويل لا بد وأن يتناسب مع حجم الضخ الهائل الذي نشهده عبر الشاشات والإذاعات وحتى في اللوائح الإعلانية على الطرقات، (من منا نحن السوريين كان يتوقع أن تمتلئ جدران العاصمة ولوائحها مثلاً بوجوه «فنية» محددة ظهرت فجأة خلال الأزمة، وقدمت أغاني بهذا المستوى المتدني فنياً، بغض النظر عن تأثيرها السلبي على  القضية الوطنية في الظرف الحالي).
ربما من الأجدر على من يسوق لهذا النوع من الفن تحت مسمى وطني أن يدرك بأن رأي السوريين ليس رهينةً لحجم هذا الضخ أو ذاك، ولا يملك حق احتكاره والتكلم باسمه، وأن السوريين قادرون على التمييز بين الأغنية الوطنية بشكلها ومضمونها، وبين أغنية تحاول الاتكاء على بعض المفاهيم والمقدسات الوطنية..

فشل في فهم الوطن..

يمكن القول أن النموذج من الأغاني يكشف عن سذاجة وسطحية في فهم الأزمة الوطنية ودور ومسؤولية الفن في رأب الصدع وإغناء العالم الروحي للإنسان السوري باتجاه الوعي الوطني الجمعي بعيداً عن الانقسامات والتشوهات التي أحدثتها الأزمة.