بين قوسين: تموز.. وانحباس اليسار
يمكن الجزم أن غالبية قوى «اليسار» في المنطقة لم تتعلم حتى الآن درساً واحداً من ملحمة تموز 2006، ملحمة المعرفة والتخطيط الدقيق والانضباط والصمود والتضحية والثقة بالنفس والمستقبل وثبات القلب والقدم والصدق مع الذات ومع الآخرين وتحديد الهدف وتوفير أسباب الوصول إليه... ربما لأن هذه القوى لم تعد قادرة على التعلم بسبب شيخوختها المبكرة أُطراً ومحتوى المتجلية ضعف بصر وبصيرة وتخلياً عمّن كانت تدّعي تمثليهم، وتسليماً غير معلن بالفشل، وغرقاً باليأس أو بالملذات أو بالثانويات... أو ربما بسبب عنجهية وسطحية قادتها «التاريخيين» وكوادرها «العلمانيين» غير المحتاجين لدروس إضافية من «قوى أصولية»، وهو ما يعبّر عن جهل عميق ومفضوح في فهم جوهر الإيديولوجيا الثورية وديالكتيك الحياة، أدى حتى الآن لاهتزازات فكرية قوية، وبالتالي لتغيير الخندق بشكل سافر أو مبطّن..
خلال السنوات الأربع المنصرمة قيل الكثير عن «المعجزة» التي حققتها المقاومة اللبنانية في المواجهة المباشرة والشاملة مع العدو الصهيو- أمريكي وأذنابه الداخليين من قوى وتيارات ومؤسسات وميليشيات وأجهزة استخباراتية وجواسيس ووسائل إعلام، وقدّم «اليسار» الكثير من المساهمات في هذا الإطار، التي إما راحت تمجّد المأثرة وهي «مندهشة»، وإما أنها تعمّدت الاستخفاف بما حققه المقاومون، معتبرة أن كل ما جرى مجرّد انعكاس لمستوى تطور الصراع والتوازنات بين بعض القوى الإقليمية الكبرى.. وفي الحالتين بقي هذا «اليسار» عند سطح القضية، ولم يستطع السير خطوة واحدة نحو عمقها لتحليلها واستنباط الدروس التي يمكن الاستفادة منها للخروج من حالة الموات التي تعيشها معظم قواه..
لم ينتبه «المندهشون» و«المستخفّون» على السواء، لجملة حقائق صغيرة يقدمها التاريخ القريب.. لم يسألوا أنفسهم كيف استطاعت المقاومة اللبنانية، التي يرونها ذات طابع «فئوي» صغير في محيط تملؤه «فئات» أخرى منطوية على ذاتها و«فئة» كبرى تحاول الظلامية الهيمنة عليها، أن تجمع قلوب الناس حولها متناسين فئاتهم؟ لم يتبينوا يقيناً سبب تمايزها وهي التي ولدت في ظل حرب الزعامات الإقطاعية الملوثة طائفياً، والاحتلال الصهيوني، والتدخلات الإقليمية والدولية، واشتداد الانسحاق الطبقي للفقراء..
إن جل ما فعلته هذه المقاومة ذات التنظيم المحكم الكتيم بكل بساطة، أنها وجّهت نيرانها نحو العدو الحقيقي، ووظّفت باتجاه هذا الهدف كل الإمكانات الذاتية الخلاقة والمساعدات الخارجية، وجرّت المرجعيات الدينية والزعامات العشائرية إلى صفوفها بحكم الأمر الواقع المستجد وبواكير انتصاراتها الميدانية، وحاولت قدر ما تتيحه بنيتها وإيديولوجيتها إنتاج خطاب سياسي وسلوك يومي يتناغم مع الهدف المعلن.. ثم بدأت تحصد الانتصارات الكبرى!.
«كم من فئة قليلة...» عقيدة راسخة عند البعض يعدّون لتحقيقها ما استطاعوا من «قوة ومن رباط الخيل»، وهي مؤثر عاطفي عند البعض الآخر يتلوها فيصيبه الوجد، لكنها بالنسبة للعديد من القوى اليسارية كلام قد يُردَّد بسطحية دون إدراك لمتطلباته ولوازمه، رغم أنهم كثيراً ما كانوا «فئة قليلة» لأسباب اختلقها وعممها أعداؤهم، وهم كذلك اليوم، بسبب تشرذمهم ويأسهم وضياع بوصلتهم ووهن هممهم، ولن يكون لهم أي حضور أو دور أو أثر، أو حتى مجرد البقاء، إلا إذا مضوا باتجاه دورهم الوظيفي الإنساني، وهو الوحيد الذي سيفتح قلوب وعقول وأبصار الناس باتجاههم، ويكسر عزلتهم والنفور منهم ومعاداة الكثيرين لهم على الاسم والشبهة..
بعد الانهيار الكبير، غيرت بعض القوى اليسارية أسماءها وبعض مرجعياتها، وأخذت «العلمانية» بعضها الآخر إلى مواقع وخنادق أخرى، وتشظت أخريات إلى فصائل لا تختلف جوهرياً بشيء بسبب انعدام الوزن والرؤية، كما تقوقعت فصائل منها على نفسها وأغلقت أبوابها وعقولها لتغرق في العدمية.. كل ذلك في سبيل البقاء والاستمرار، لكنه لم يجدِ نفعاً.. والاضمحلال يستمر..
أزعم أن قسماً صغيراً من اليسار ما يزال حتى الآن قابضاً على الجمر، ويضع نفسه في مواجهة مهام حاضره ومستقبله.. ولعله الوحيد الذي تمكن المراهنة عليه في تعلم دروس تموز 2006.. وتموز يوسف العظمة، و«تموز» الحياة المتجددة والخصب والنماء، الذي يعود من العالم السفلي ليملأ الأرض خضرة وعدلاً وضياءً..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.