«كنتاكي»..«كيت كات»..«زارا»
عندما كنا صغاراً، كنا ننتظر بفارغ الصبر الرحلة الساحرة إلى لبنان، لا من أجل المناظر الخلابة والشوارع والقرى الجميلة فقط، ولا لمجرد الطمع بزيارة الأقارب واللعب مع أطفال جدد يتحدثون بلهجة غريبة، وإنما أيضاً بسبب حالة ترقب وانتظار الوصول إلى منطقة المصنع في رحلة العودة، هناك كنا ننزل من الباص ونعيث فساداً في المحلات وبين رفوف المنتجات، نملأ جيوبنا وأكياسنا بمختلف أنواع البسكويت والشوكولا التي لم تكن متوفرة في سورية حينها، لتكون زوادتنا الصغيرة التي نحملها كغنيمة من زيارتنا تلك... وبعد سنوات تحقق الحلم المنتظر، وامتلأت المحلات والأسواق في سورية بكل تلك الأنواع، إلا أنني لم أشتر أيٍ منها، فأنا كبرت، وطعمها لم يعد لذيذاً كما كان في ذاكرتي، وسعرها كان أغلى من أن تستحق شراءها..
كنت أرغب في افتتاح المزيد من محلات الملابس.. ولطالما لاحقت بعيني العبارة التي تقول «التشكيلة أوسع في الداخل» ظناً مني أن اتساع الخيارات والتفصيلات والألوان سيجعلني أبدو جميلة أكثر... ومع مرور الوقت ازداد عدد المحلات واتسعت التشكيلات فعلاً، إلا أنني ما زلت أشتري ملابسي من المحلات نفسها، واتساع التشكيلة لم يزدني إلا غضباً وشعوراً بالعجز، والفائدة الوحيدة التي جنيتها اليوم من تلك المحال هي استعمال زجاج واجهاتها اللامع كمرآة أرى فيها صورتي الباهتة وأكمل مسيري..
كنت أشعر بالجوع عند مشاهدة إعلانات مطاعم كنتاكي وبيتزا هات، وأتمنى افتتاح فروع لها في بلادي لأتذوق طعم الجبن السائح أو الدجاج بالخلطة السرية اللذين كانا يبدوان أشهى من الجبن الذي آكله أو الدجاج الذي تطهوه أمي، إلا أنني الآن –كما دوماً– ما زلت أشتري غدائي من مطاعم الفول أو الفطائر أو الساندويتش الصغيرة، ليكون كنتاكي وغيره بمواقعه المميز ة وألوان ديكوراته الصاخبة مجرد مركز تجمع بيني وأصدقائي، نلتقي بجانبه لنكمل مسيرنا إلى مكان آخر..
كنت دوماً أراقب شكل الشوارع والأزقة في بلادي وأقارنها بصور احتفظ بها عقلي من التلفاز أو المرات القليلة التي سافرت فيها إلى بلدان مجاورة، كنت أسبح بخيالي لأعيد تنظيم أشكال الشوارع وتبليط الأزقة وتنظيف الساحات، ومع مرور الوقت ظهرت ساحات وشوارع جميلة «إما نتيجة زيارة مفاجئة لأحد المسؤولين إلى البلاد أو إثر خطة تنظيمية جديدة»، واكتست بعض الساحات «المدعومة» بأزهار التوليب وغيرها من الورود الثمينة الملونة وأعمدة الإنارة الجميلة، إلا أنني الآن لم أعد أنتبه إلى أشكال الشوارع لأن ذهني مشغول بأزمة المرور وطول الطريق والتعب ومحاولة الفوز بمقعد داخل الباص، كما إنني عندما أصل إلى الحارة التي أسكنها وأمشي في الطريق الموصل للبيت أنظر حولي لأجد أن المشهد بقي نفسه وأن لا شيء تغير هناك..
تلك هي بضعة مشاهد وذكريات تداعت إلى ذهني عند قراءة مقال في إحدى الجرائد يشرح معنى مصطلح تحرير التجارة واقتصاد السوق والعولمة وغيرها من المصطلحات التي تبدو معقدة بعيدة عن الفهم، ليظهر في نهاية المطاف أن تحرير التجارة يعني المزيد من البضائع المستوردة على رفوف المحال دون ازدياد قدرة الأفراد على شرائها وأن التعريف الأبسط للعولمة هو «قطعة كيتكات».