شمس للكواليس.. بعد نـجاة قلقة

في الأمسية الباردة، كان لمسرح السويداء رأي بالعتمة عندما استيقظت إحدى المسرحيات على الخشبة ذاهلةً من دوي الصمت الشديد . المسرحية بعنوان « عويل في أروقة الظلام « من تأليف منير جباعي، وإعداد وإخراج أيمن الغزال.

قصة المسرحية  تتجول في قرية بسيطة تأتي إليها معلمة من مشروع محو الأمية فتتعامل مع سكان القرية الطيبين ثم تظهر الدباحة في صف محو الأمية لنتعرف بعد ظهورها على حب قديم قتله الموروث والمفروض فنفى نفسه من قصور الإنس نحو النأي والانتظار والنسيان، لكن قبل منازلة هذا العمل لابد من مديح الحظوظ:

حظ الفرادة والوحدة في خوض معارك الجليد والعطالة وحظ اليقين الإنساني عندما أدخل جمعية إنسانية للمعاقين في أروقة أهدافه وولج هو مجال طموحها.

لكن رغم ندرة تلك الحظوظ وأهميتها لا بد من الكلام طويلاً عن مفاجأة هذا العرض الذي لم تصب (لذته التراجيدية أو الكوميديا) إلى التماس النتاسق وأما الصيغة المسرحية والتي تكوَن عصب العمل المسرحي فقد ضمرت وضمرت معها كل العناصر الأخرى لتعلن المسرحية عن غاية خجولة هي (في المضحك فقط..), الذي سيظهر أقرب إلى الملهاوات التقليدية منه إلى الأشكال الحديثة الاجتماعية، أو الواقعية، أو الفكرية أو الساخرة العميقة (الكوميديا السوداء) والمسرحية بذلك لم تقبض على أقل وظائفها وهي ( رؤيا للعالم ) كما يراها غولدمان .

المسرح في السويداء الآن عليه التخلي عن التسلية أو الترويح وعليه التخلي عن خوفه من التجريب أيضا، بعدما امتلأ الكون بالمنافس (اللامسرح) والمتمثل بالعروض -the show- والاستكتشات والمنصات التلفزيونية (الاستديوهات)-، لذا يجب على المسرح في السويداء أن يقر بكون المسرح تداخل عوالم وصدام  بين حرية تلك العوالم، مسرح كما أراده بارت (كثافة علامية) وليس إطالة مكللة بالخواء بانتظار المغزى-.

كانت المسرحية متخمة بالجراح كزانية فضحت ،ففي فداحة هذه الهشاشة الجنينية التي ظهرت يصبح دور الناقد كما يقول رولان بارت «-لا البحث عن مشاريع مبدئية تعطيه صورة عن مسرح مكتمل-، بل على العكس من ذلك تحديد ما يدعو في هذه المشاريع إلى فشلها»، وأهم ما يهدد فشل هذا العمل بدا في نيته على  الانحسار  ترسباً ومحاكاة جادة لمسلسل الخربة ..

فلقد تراصفت ترسانة هذا العرض من النّص والشّخوص والأزياء والدّيكور تحت جلد القيم البرجوازية الصّغيرة التي تستهلك المتفرج مانعةً إياه من رؤية نفسه أو معاينتها، فالخشبة خرساء لا تروي، خلقت من عي لسانها (متفرج الانتظار)، متفرجاً سيفرح من سهولة ارتشاف العمل وعندها وهو وفي تلك الغفوة اللذيذة تحت وطأة كسله تتجذر تلك الكاركتارات في ذهنه وهنا تبدأ لعبة قديمة جديدة تعشقها الميديا بكل أشكالها ويتغذى عليها الوهم  الطبقي حتى التّخمة هذه اللعبة هي التّكريس والتّنميط، حتى لنرى المتفرج الذي يشبه إحدى الشّخصيات أو الذي هو بالأساس أب روحي لها يجاهد في محاولة ساذجة في تقليد شخصية المقلِد كما يحدث مع الكثير من الذين لمحوا أنفسهم في أعمال تلفزيونية كــ«الخربة» وضيعة ضايعة ،إن المسرح هنا هو لعبة تضليل وتهميش وإقصاء وتطفل على الحياة بلغة وحوار يشبه ما كتبه رولان بارت عن مسرحية البنغ بونغ لآدامون «لا يترك مجالاً لفجوات تنفس تخرج من صرخات أو تعابير جديدة مبتكرة، عندما تصبح العلاقات الإنسانية، بعكس ما هي عليه من ديناميكية ظاهرية، (مبروظة) وراء قوالب جاهزة جامدة سرعان ما تحيد عن خطها وتنزلق في أخطاء كلامية ،هكذا تتلاشى (الأصالة)......» فهذه اللغة حتى وإن كانت من صنع هذه الشخصية إلا أنها غدت هي والشخصية من نوع المجلد أو المعلب الذي يسافر مغلفاً من أعمال تلفزيونية إلى أعمال مسرحية مع بعض المواد الحافظة وهي أفكار متغيرة مقحمة على ذلك المغلف ،لذلك ستفشل العنونة حتماً رغم هيبتها(عويل في أروقة الظلام ) في رتق كونها الأوسع (المسرحية) ولن تكون إلا جسراً حجرياً ضخماً يفضي إلى بيدر مالح. 

لقد ثمنت حظوظ هذا العمل رغم أزمته المعقدة كوقت عرضه وهذا انتصار الخشبة على الركام،  ولهذا ربما يراودني الآن صراخ نقي محجوب عما ذكر يقول: أيها الآخرون في وطني لقد اهتديت إلى عتمة المسرح.