شوقي مسلماني شوقي مسلماني

مدينة - مقبرة

وأجرؤ وأقول إني مررتُ بتلك المدينة - المقبرة، حقّاً هي مدينة - مقبرة، سُلطاتها الأولى والثانية والثالثة والرابعة على هيئة ناسها وهم يقودون سيّاراتهم في الشوارع الرئيسيّة والفرعيّة، وجميعها قولوا: شُبِّه لكم. لا إشارة سير، وإذا هناك إشارة سير فهي معطّلة يحاصرها الصدأ. لا علامات، لا على الطريق ولا في الطريق. والسيّارات صراصير. ومثلما يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره فالدرّاجات الناريّة، والكثير منها «طرطيقات» من كلّ حجم وجنس، وجميعها بشعة، يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها: تعوم مع السير، ضدّ السير، تحت السير، فوق السير. إنّ أهل «تحت» هم على صورة أهل «فوق» وأهل «فوق» هم على صورة أهل «تحت».

 

السُّلطة الأولى تشتعل ثمّ تنطفئ، لا تدري على أي حال ترسو. السُّلطة الثانية ميدان لاستعراض العضلات المفتولة والألسنة الطويلة والاختلاف على كلّ شيء إلا على احتقار الناس. السُّلطة الثالثة كشّاش حمام، مع الاعتذار سلفاً من كلّ كشّاش حمام حقيقي طيّب جميل. السُّلطة الرابعة حدّثوا ولا حرج: تعمل سيّافة عند هذا وذاك، ليس عندها سوى أجوبة، ولا سؤال واحداً. تجثو على ركبتَيها وتتمسَّح بالأحذية كالقطط. لا أحد فيها يحبّ أحداً.

مررتُ بالمدينة - المقبرة. ركام، ركام من حجارة أبنية بدينة وأبنية خيطان وأبنية عالية وأبنية واطئة. عمدان وعيدان في الأرض كيفما اتّفق. تتساوى في ذلك كلّ المدينة التي تصدأ والقرية التي خسرت قريتها وصارت مدينة صغيرة ليس فيها سوى خردوات. لا حجر على حجر، لا من المدينة القديمة ولا من القرية القديمة، فالمدينة والقرية القديمتان ينعاهما البوم.

الدولار يكرج في الشارع ومظاهرات كبيرة خلفه، ما أن تدرِكه حتى يعود ويسبقها. الغد شاحب. الحاضر فخّ. لا أحد هنا، فقط الكلّ هم ساعة هنا وساعة هناك، أو هنا وهناك وباللحظة ذاتها. رؤوس «شوامخ» ورؤوس «حجران» يتقاذفها «الولدان» على السيّارات في الطرقات المقطوعة فجأةً بالإطارات المشتعلة.

اللحم فاسد، الدجاج فاسد، السمك فاسد، الدواء فاسد، وجوه متعبة أو لا مبالية، انقطاعُ الكهرباء. هي مدينة - مقبرة يذهب ماؤها هدراً في البحر. الأفواه جافّة، العظام ناشفة. هي مدينة ـ مقبرة كلّ ما فيها نواح. الكلّ مظاهر للنواح. لا اتّفاق على خارطة نجاة إلا إذا كانت هذه الخارطة مدفوعة الأجر وإلا فالهستيريا والانتحار الجماعي.

المرايا تنكسر من إطالة التحديق. كلّ فكرة مكسورة. لا أقول من نصف الكأس الفارغ، أقول من الكأس الفارغ كلّه. لا زراعة ولا صناعة! أين الماء والكهرباء؟ لا نظام ولا انتظام! أين من يخرجون ويرجعون؟ لا، لا من يخرجون ولا من يرجعون! أين الحكمة؟ لا حكمة.

قبائل، قبائل في السياسة، قبائل في الاقتصاد، قبائل في الأمن، قبائل في الفن والأدب والشعر، قبائل في الأديان والمذاهب. ماذا هذا الدمّ الذي لا يكفّ عن النزف؟ ماذا هذا الاهتياج؟ ماذا هذا النمل الميت؟ ماذا هذا العبث بالأرصفة حتى لا تزيد على شبر؟ ماذا هذه الهواتف التي لا تكفّ عن الرنين فيما الكلام ليس فيه كلام؟ ماذا الجبال المبقورة؟ ماذا جبال القمامة؟... ولا من يرى أو يسمع!

 • الغاوون