ومضة «سياسية» من التراث

لعبت الجماهير دور الأداة الأساسيّة في التغيير الاجتماعي على مرّ الزمان، واتّخذت التغييرات أشكالاً عديدة ومتنوعة، واختلفت باختلاف الزمان والمكان بالإضافة إلى الظروف والشروط التاريخية والسياسية التي رافقتها.

 

اليوم، يعيش العالم تحولات كبيرة ونوعية، قد ترتقي إلى مستوى التحولات الثورية، ذلك أن العالم القائم وكل منظوماته المختلفة أصبحت موضع بحث ونقاش، ومحل صراع أيضاً. يعود دور الجماهير ليتصاعد من جديد، فيلاقي أسئلة صعبة، واستحقاقات جمّة تبرز أمامه واحدة تلو الأخرى، وتتركّز حول الأسس التي تسببت بظهور موجة التغيير، خاصة أن التحولات لمّا تنضج بعد، ولم تأخذ مداها النهائي ولا مساراتها المطمئنة، على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والديمقراطية..

لا تخرج مجتمعاتنا العربية والإسلامية عن سياق التحولات العالمية الجارية، بل إنها تقع في قلبها، ولذلك تحاول الكثير من القوى المعادية للشعوب استثمار خصوصيتنا الإسلامية، كما فعلت هي وحكامنا المحليون عبر التاريخ، لتبديل الأولويات ولطمس التناقضات الاجتماعية التي وصلت إلى حدودها القصوى. ويتم ذلك من خلال تضخيم التناقضات الثانوية على حساب التناقضات الأساسية، وهي محاولة للإبقاء على القديم، ووأد للجديد، بما يعاكس حركة التاريخ وتطوّره الموضوعي..

من القضايا التي استغلت لحرف الصراع عن مساره الصحيح، فكرة العمل السياسي عموماً، وقضيّة الديمقراطية والحريات السياسية خصوصاً التي تتصدر الأدوات المستخدمة لهذه الغاية. وهنا نخص بالحديث الفقهاء الذين تولّوا مسألة تأويل النص الدّيني، فهذا الأخير أرسى مبادئ عامة لقضايا إنسانيّة واجتماعية وحتى سياسية، وهذه المبادئ تبقى عامّة وفقاً للنص الديني نفسه، فهي لا تشرح بالتفصيل زمان ومكان تطبيق تلك المبادئ ولا تحدّد الأشخاص المنفّذين لها، وتلك مسألة كثيراً ما أغفلها بعض رجال الفقه ممن تسيّسوا وممّن حرفهم حبّ السلطان عن المسؤولية والنزاهة الأخلاقية والدينية، فكان أن استغلّوا مواقعهم لدعم هذا الطرف أو ذاك، ووصل الحال مع بعضهم أن حرّموا انتخاب هذا الشخص أو الحزب أو ذاك كما في مصر العربية..

يرسم التراث الإسلامي الحدود الدقيقة بينه وبين العمل السياسي الملموس والمباشر، فقد جاء بتعاليم إنسانية عامة تدعو إلى الإخاء والعدل والتكافل الاجتماعي وضرورة احترام الآخر. ولم يحدد النص القرآني أشكالاً معينة أو خاصة للحكم ولكنه حدد القواعد الأساسية لمجموعة كاملة من القيم الإنسانية والاجتماعية التي يبنى عليها أي نظام للحكم، من أهمها إرساء نظام حكم قائم على الشورى، والسعي للعدالة الاجتماعية القائم على الدعوة للتعاون والمساعدة، قال تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمَكم عند الله أتقاكم» (سورة الحجرات، الآية 13). والحض على التعاطف والتراحم في العلاقات الاجتماعية، كما في قوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين» (سورة الأنبياء، الآية 107) وبهذا أوجب على المسلمين أن يتوافقوا على أكثر أشكال الحكم تعزيزاً لهذه القيم.

ينطوي القرآن الكريم على فكرة تحميل الإنسانية جمعاء نوعاً من المسؤولية عندما جعل الله كل الناس خلفاءه في الأرض، في قوله تعالى «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» (سورة البقرة، الآية 30). هنا يفرض الله على الإنسانية جمعاء تحمل مسؤولية جعل العالم أكثر عدالة، حسب النص القرآني، إذ يؤكد على التساوي بين الناس في الحقوق السياسية دون استثناء، فالشرط الوحيد المفروض على البشر لتحمل مسؤولياتهم المختلفة هو الرشد والبلوغ.

ذلك التساوي في الحقوق والواجبات يمكن ترجمته في عالمنا المعاصر بمفهوم المواطنة التي تجعل الجميع على مسافة واحدة من العقد الاجتماعي. فكون المرء مسلماً لا يتعارض البتة مع أي مبدأ سياسي أو اجتماعي يقيم العدل والحق في الأرض كما نشد الإسلام على طول الزمن.

إن الأمثلة البسيطة المذكورة تؤكد أن ممارسة الديمقراطية تحتاج إلى إعادة قراءة التراث الاسلامي من جديد ورؤية جوهره، وهي تؤكّد على إمكانية تجذّر هذه الممارسة في المجتمع، واستيعابها في الثقافة السياسية كمعيار أخلاقي وقيمي، بحيث ينتج مجتمعنا ديمقراطيته الخاصة المنبثقة عن إرادة الأغلبية من المواطنين..