احتمالات

قرع الجرس انتهى اليوم المدرسي، نهاية  لطالما انتظرتها بفارغ الصبر كما العادة «الأسبوعية»، فاليوم الخميس وفي انتهائه ما يفوق متعة انتهاء الأيام المتعاقبة، متعة تتغذى بهوس الاحتمالات الكثيرة كما يقول درويش، احتمالات ربما تجاوزت إلى حد كبير ما قد تتسع له مساحة هذا اليوم ولكن على الرغم من ضيقها إلا أنها كانت كافية لقتل ضجر الفروض المنزلية اليومية، متعة افتراضية زاد من حجمها ابتعاد هذا المساء عن شدة الرقابة الأبوية، فذريعة العطلة تتسع معها دقائق الغياب ومن ثم العودة المتأخرة إلى البيت، والتمتع بساعات طويلة ربما على الحاسب أوعلى التلفاز وسط العائلة أوربما بمشاهدة فيلم أتأمل أن تكون حبكته أروع مما نسجته مخيلتي من سيناريوهات عديدة وأنا أترقب غلافه الشيق طيلة أيام الأسبوع انتظارا  لهذا المساء..

خرجت من الصف باتجاه باب المدرسة، باب «الحرية» كما كان يحلولي تسميته دوما ولكن ليس بعد اليوم، فالباب غاب عنه اللون الأزرق، وكثرت فيه العبارات بضجيج وتناقض لم يترك متسعا أوفراغا لأملأه بالاحتمال الذي أريد.

شارع المدرسة ليس كعادته ولا وقت فيه للتسكع كما اعتدنا أنا وزملائي، خطوات العودة باتت حرة في تسارعها ولم يعد يحدها خطوات تلك الفتاة في المدرسة المقابلة التي حفظت وإياها طريق العودة إلى حارتنا غيبا، مع كل خطوة يغيب احتمال  آخر.. فأسرعت حرصا على ما تبقى منها.

وصلت البيت، دخلت، وأغلقت الباب خلفي ببطء شديد، وأنا استرق النظر لاحتمال زائر أعلم كل العلم أنه لن يأتي، فالزيارات العشوائية التي كانت تميز عشوائيتنا انقطعت منذ بداية الأزمة، البيت هادئ لا صوت سوى ماراتون الشتائم بين خصوم  تعودنا رؤيتهم على الشاشات «المأزومة»، يستمع أبي إليهم باحثا  عن احتمال يضيق مع علوصراخ هذا الطرف وذاك، أمي مشغولة بانتهاء إعداد المائدة «الصغيرة» فهي الأخرى أصبحت أقل تنوعا.. والخيَارات باتت مؤشرا واضحا للأسعار، وحاستنا الشمية لم تعد تجد صعوبة في معرفة الاحتمالات «المملة»، أخي الكبير يهرول من الغرفة مسرعا ينظر إلى ساعة الحائط، ويهمس «ساعة وبيبلش».....؟؟ تساءلت بابتسامة مترددة عما ينتظره أخي؟ لعل انتظاره كان لاحتمال ليس في الحسبان..؟! أسرعت باتجاه الغرفة فتحت بابها متلهفا،لم أجد سوى الضوء وقد أنارالغرفة قبل الأوان، إذ لم يكن الظلام قد حلّ بعد، ولكنني لم أكن بحاجة لسؤاله عن السبب فقد اعتدنا أن نمارس «الترف» بغية الانتقام من «ظلمة التقنين» فأدركت أن «التقنين» هوالخيار الوحيد الذي ينتظره أخي....

في الظلمة يضيق الخيال، يمحوالسواد خارطة الألوان الباقية، فيتلاشى لون  تلوالآخر ليأخذ كل خياره ويرحل، تاركين مساحة  من الفراغ لا تجد ما يملؤها....

نظرت إلى الفيلم «المرتقب»، في داخلي لم يعد هناك مكان لسيناريوجديد، وغلافه لم يكن شيقا  كما العادة ولكن فاجأتني حينها ابتسامة ووجدت ماعلي إنجازه في أيام الأسبوع القادم، ضحكت بصوت مرتفع وبدأت بإنهاء السيناريوهات التي كنت قد وضعتها لفيلمي المنسي، وبدأت أخط عنوان الأحد: فالاثنين: فال.... ثم..!!

وصلت ليومي المنشود، الخميس: لم أجد عنوانا، ولم أستطع تجاوز صلاحياتي فلهذا اليوم قصة  لا قيود لها واحتمالات ليس لمخيلتي قدرة  على حصرها، لكنه أراح ذهني من عناء التفكير فكتبت دونما توقف «الخميس القادم سأشاهد الفيلم...»