الوحدة مثل الجوع
جون كاسيوبو جون كاسيوبو

الوحدة مثل الجوع

أولغا كازان تحاور عالم النفس في جامعة شيكاغو والباحث بشكل مكثّف في مجال الوحدة جون كاسيوبو

تعريب وإعداد: عروة درويش

رغم أنّنا نسمع الذين يشعرون بالوحدة يتململون بالقول: "سوف أموت وحيداً"، فمن وجهة النظر العلمية يجب أن تكون الهمهمة هي: "سوف أموت إن كنت وحيداً". يمكن لنقص الاتصال الاجتماعي أن يحفز مجموعة من الالتهابات والتغيرات في النظام المناعي، ولذلك فإنّ احتمالية الموت المبكر بين الوحيدين أكبر من نظرائهم غير الوحيدين. الوحدة أشدّ خطراً من البدانة، وهي بذات خطر التدخين. يعتبر هذا التهديد خطيراً لدرجة أن إنكلترا أطلقت: "حملة لإنهاء الوحدة".

لكن رغم هذه الحقائق، فإن الوحيدين بيننا يزدادون وحدة. يختبر الناس الذين لديهم تواصل اجتماعي قليل تغيرات دماغية تقودهم لاحتمال أكبر أن يروا الوجوه البشرية كتهديد، ممّا يُصعّب عليهم الارتباط بالآخرين.

- أولغا كازان: ... لماذا يصبح الناس وحيدين أكثر... هل الأمر أنّهم يكبرون وحسب، وكبار السن يميلون للوحدة؟

-- جون كاسيوبو: أولاً، دعيني أوضّح شيئاً. الارتباط بين كلّ من العيش وحيداً، وكونك وحيداً، وحجم شبكتك الاجتماعية، ضعيف. لننظر إلى المرضى في المستشفيات: ليسوا وحيدين، ولديهم كامل الدعم الذي يمكن أن يطلبوه، لكنّهم يميلون للشعور بالوحدة. هناك فارق بين كونك وحيداً وبين شعورك بالوحدة. يميل المتزوجون للشعور بوحدة أقل من غير المتزوجين. لكن رغم هذا فإنّ المتزوجين قابلين للشعور بوحدة استثنائية عندما يتمّ تغريبهم عن أزواجهم وعائلاتهم. الروابط بين الأمرين ضعيفة، وعلينا أن نقيم عزلاً موضوعياً ونبقيه قائماً بين الأمرين.

عند الحيوانات: ليست الوحدة بفصل القرد عن أيّ من رفاقه، بل فصله عن رفيقه المفضّل. عندما نقوم بذلك فإننا نشاهد ذات التأثير الذي نراه في البشر على القرود. إنّهم يشعرون بالوحدة.

- إذاً ما هو سبب هذا الارتفاع الطفيف ((3 إلى 7% خلال الأعوام العشرين الماضية)) في نسب الوحدة؟

-- نعلم أن هناك عدداً من العوامل الثقافية والعوامل المتعلقة بالمحيط. كمثال: زاد الإنترنت التواصل، لكن إن نظرت يوماً إلى رسائلك العاديّة أو الإلكترونيّة المتبادلة مع عائلتك في إحدى المناسبات، فستدرك بأنّ هذه الاتصالات الرقمية لا تعني أنّك تشعر بالتواصل أكثر.

إن كنت تستخدم هذه الاتصالات الرقمية كنقطة توقّف، كما يفعل الأولاد اليوم عندما يستخدمون الفيسبوك للاتفاق على اللقاء في مكان ما، فاستخدامك هذا متصلٌ بمستويات متدنية من الوحدة. لكن إن كنت تستخدمها "كوجهة"، والمثير في السخرية أنّ الوحيدين يميلون لفعل ذلك، فهم يميلون للانسحاب اجتماعياً لقساوة الأمر، وربّما للتفاعل رقمياً بغير شخصياتهم الأصلية كي يشعروا بأنّهم مقبولين أكثر. لكنّ هذا الأمر لا يجعلهم يشعرون بقدر أقل من الوحدة.

إذا كان القبول الوحيد الذي يمكنك أن تحظى به ناجمٌ عن قبولٍ مزيّف على الإنترنت، فهذا لن يجعلك تشعر بالتواصل. لكن إن كنت تستخدم مواقع المواعدة كي تقابل أشخاصاً آخرين، فلن يفاجئك ارتباط استخدامك هذا بمستويات متدنية من الوحدة.

- لماذا يفسّر الوحيدون المواقف الاجتماعية بشكل أكثر سلبية؟

-- هناك طريقتان للتفكير بالأمر. الأولى تحصل قبل الانتباه، والثانية تحصل بشكل واعٍ. كمثال: عندما تجوع، فأنت تشعر بالأمر كي تحصل على المزيد من الطعام. يهدف الشعور بالجوع إلى تحفيز سعيك للطعام قبل أن ينخفض معدل وقودك، فلا تعود تملك الطاقة لفعل ذلك. بينما تحفزك الوحدة على إصلاح أو استبدال علاقاتك التي تشعر بأنّها مهدّدة أو مفقودة. ولهذا يولي الناس أهمية أكبر للمعلومات الاجتماعية، لأنّه قد تمّ تحفيزهم لإعادة ترتيب العلاقات.

عندما تكون جائعاً تكون أكثر حساسيّة للطعم المرّ منه من الحلو. ويعود السبب في ذلك من وجهة نظر تطوريّة إلى كون الطعوم المرّة مرتبطة بالسموم. هذا يعني بأنّك ستبصق الطعام المرّ الصالح للأكل حتّى لو كنت تحاول إيجاد شيءٍ ما يبقيك على قيد الحياة.

يحدث ذات الأمر مع الوحدة. إن نظرت إلى البشر الأوائل وغيرهم من المجموعات الإنسانية البدائية، فهم لم يكونوا إيجابيين بذات الشكل تجاه بعضهم البعض. كان عليهم أن يقلقوا من تحديد الأصدقاء والأعداء. فتماماً كما هو الأمر في المرّ مقابل الحلو والسام مقابل غير السام، فإن أخطأت وصنفت شخصاً بأنّه عدو واتضح فيما بعد بأنّه صديق فالأمر مقبول فعندها لن أعقد الصداقات بسرعة، لكنني سأنجو. لكن إن صنفت عدوّاً بالخطأ على أنّه صديق، فقد يكلفني هذا الخطأ حياتي. لقد تشكّلنا أثناء التطور كي يكون لدينا هذا الانحياز.

وهذا يقود إلى تشكيل التوقعات، فأنا أتوقع ما أرى. فإن كنت أعتقد بأنّك عدواني، فسوف أجيبك بشكل مختلف جداً عمّا إن كنت أثق بك. لقد تمّ تحفيزك لكي تتواصل، لكن قد يقودك التواصل غير الواضح مع الآخرين إلى الموت. تجعلك إحدى الآليات العصبية تكون شكاكاً أو مرتاباً من التواصل.

- وجدت بعض الدراسات أنّ خلق فرصٍ للتواصل الاجتماعي، أو حتّى لتحسين المهارات الاجتماعية، لم يساعدا حقّاً في التقليل من الوحدة. لم لا؟

-- يدعى التفاعل الاجتماعي في بعض الأحيان بالتشارك الاجتماعي، والفكرة الأساسية وراءه هي أنّه يمكن علاج الوحدة عن طريق وضع الناس مع بعضهم. الأمر هكذا: إن لم يكونوا وحدهم، فلن يشعروا بالوحدة. تؤمن الكليات بهذا الشيء، وهذا سبب وجود "الخلاطات[1]" لديهم. ألا تتذكرين "الخلاطات" في الجامعات؟ لكنّها ليست فكرة ناجحة.

لا يعني وجودك مع الآخرين بأنّك ستشعر بالتواصل معهم، ولا يعني وجودك وحيداً بأنّك ستشعر بالوحدة. يمكن لهذا أن يحدث، لكنّنا نحن من نختار عادة أن نكون وحيدين.

تحبّ الأم أن تلعب مع طفلها حديث الولادة، ولكن هذا لا يعني عدم مساعدة زوجها لها لتأخذ استراحة، وأن يدعها تجدد نفسها عن طريق بقائها وحدها لبعض الوقت، من أجل أن تعود وتستمر في أن تكون سخيّة ومحبّة وعطوفة. يعزز وقت الوحدة ذاك التواصل الاجتماعي ولا يقلله.

- ماهو "الدعم الاجتماعي" إذن؟

-- هناك برامج مخصصة لكبار السن الذين يشعرون بوحدة شديدة. تزوّدهم هذه البرامج بالدعم الاجتماعي، وتحضر الطعام، وقد تلتقي بهم مرّة كل شهر. يساعد فعلٌ كهذا هؤلاء الأشخاص في الحقيقة. تتجلّى أكبر مخاوفهم بأن يموتوا دون أن يعلم أحد بموتهم وأن يهمد جسدهم ويتعفن، وهي فكرة مرعبة جدّاً. وتوفّر لهم حقيقة أنّ أحداً ما يزورهم مرّة في الشهر العزاء.

يختلف هذا الأمر عن حملهم على الشعور بقدر أقلّ من الوحدة. إنّهم يحصلون على الدعم الاجتماعي، وهذا يعالج مشكلة خطيرة، لكنّه لن يؤثر كثيراً في مستويات الوحدة لديهم. هذا يحلّ خوفهم الوجودي من عدم معرفة أحدٍ بمرورهم على هذه الأرض وحسب، بل أيضاً عدم معرفة أحدٍ بموتهم حتّى.

- ما العلاج الذي يمكن أن تتبعه كي تساعد الناس الوحيدين، ولكن الذين يتحفظون عند التواصل مع الناس؟

-- إنّ ما ندرّسه هو مجموعة كاملة من المهارات: كيف تقرأ الوجه والصوت ووضعية أجساد الناس؟ ونُظهر لهم إمكانية أن تكون هذه القراءات غير صحيحة. لذلك هناك طرق، ويمكن لها أن تؤدي إلى إجابات صحيحة، لكنّها قد تقود إلى إجابات خاطئة بشكل شديد. نحن نُظهر كيفية حدوث ذلك.

إذاً كيف تتحقق من قراءاتك؟ أنت منفتح لكنّك تحترس، إذاً أنت حذر. عليك أن تختبر الفرضيات. لذلك عندما تكون في حفلة، يمكنك أن تتحدّث مع الآخرين وتمنحهم فرصة.

الشيء الآخر الذي أظهرناه هو أنّ الوحدة، وبشكل يثير الاهتمام، مرتبطة بتزايد الأثرة وحبّ الذات. يعتمد الحفاظ على الذات على التركيز على نتائجك الخاصة عندما تكون وحيداً أكثر منها عندما تملك الكثير من العلاقات. إن تحدثت إلى شخصٍ وحيد في بعض الأحيان فسيبدأ بالتحدّث إليك بكثرة بحيث أنّك لن تستطيع التهرّب. إذاً كيف يمكن المشاركة في الكلام بدلاً من التركيز على التحدث؟ يتعلّق الأمر بالتفاعل، وبالتعاون، وبالتبادلية.

- بماذا تنصح الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة؟ هل هناك أيّة خطوات عملية يمكن لهم اتخاذها؟

-- أحد أكبر الأشياء المفهومة خطأ هي الوحدة. فربطها بالبقاء وحيداً يقود إلى محاولة حلّ المشكلة بطريقة لا تحلّ المشكلة على الإطلاق. وإن بقيت تحاول لوقتٍ كافٍ فستبدأ تشعر: "حسناً، لن أكون قادراً على الإطلاق على حلّ هذا الأمر، أنا إنسان بلا قيمة". وهنا تبدأ بالانسحاب الاجتماعي.

الغاية من الشعور بالوحدة هي ذات الغاية من الشعور بالجوع. يتولّى الجوع العناية ببدنك، وتتولى الوحدة العناية بجسدك الاجتماعي الذي تحتاجه للنجاة والازدهار. إنّنا كائنات اجتماعية.

يعتقد الناس بشكل بديهي بأنّ علينا فقط أن نكون بصحبة آخرين، وقد تحدثنا بالفعل عن خطأ هذا الاعتقاد. الشيء الآخر هو فقط حول الدعم الاجتماعي، "أحتاج لمزيد من الدعم". وهذا لا ينجح كما ينبغي لأنّ المنطق وراءه لا يتضمن التبادلية. لا يجعل مجرّد حصولك على الدعم الأمور جيدة جداً. فالتبادلية هي أحد الأسباب التي تجعلنا نشعر بالرضا عند قيامنا بشيء من أجل الآخرين. عند قيامنا بالمشاركة في الطهي في مطبخ للمحتاجين، فسنبدأ نشعر بأنّ الناس لطفاء جداً معنا، فهم يستجيبون لأفعالنا بالتعبير عن امتنانهم.

والشيء الثالث الشائع هو ما يتعلق بالمهارات الاجتماعية، والذي يقول بأنّ الناس الذين يملكون مهارات اجتماعية سيئة هم الوحيدون. حسناً، احزري شيئاً، هذا الأمر ليس صحيحاً. فإن كنت تملك مهارات اجتماعية سيئة، فاحتمالية كونك وحيداً هي أكبر وهذا أمر صحيح، لكنّ الكثيرين ممّن يشعرون بالوحدة هم ممّن يملكون مهارات اجتماعية كبيرة. الناجحون في مهنهم والرياضيّون المشاهير يشعرون بالوحدة. الكثير من الناس يريدون مصادقتهم، لكن كيف ستشعر إن كنت تملك حيال جميع هؤلاء الناس تفسيراً مختلفاً لسبب رغبتهم بصداقتك؟ كأن يرغبوا بالفوائد الاجتماعية التي قد تعطيها صداقتك لهم.

لهذا ترى أنّ بعض الرياضيين المشهورين من الأحياء الفقيرة لا يقطعون صلاتهم الأصلية، رغم أنّ قطعها ينفعهم أكثر في مهنهم بكل وضوح، فهي العلاقات الوحيدة التي يدركون بأنّها حقيقية وأصيلة.

- هل هناك شيء ما يجب أن يقوم به الوحيدون بشكل استباقي، كأن ينضموا إلى مطبخ للمحتاجين أو إلى نادٍ للكتاب؟

-- فليتطوعوا في شيءٍ يستمتعون بالقيام به. لقد طوّرت مصطلحاً مختصراً هو "سهّل EASE" ليسهّل عودتك للتواصل الاجتماعي. ويعني الحرف الأول أن "تبسط نفسك". لكن ابسطها بحذر، وقم بذلك خطوة خطوة.

ويعني الحرف الثاني "احظ بخطّة عمل". اعترف بصعوبة الأمر عليك. معظم الناس لا يريدون الإعجاب بك، وأغلبهم لن يفعل، لذلك تعامل مع هذه الحقيقة. هذا ليس حكماً على شخصيتك، فهناك الكثير من الأشياء التي تجري. اسأل أشخاصاً آخرين عن أنفسهم، احملهم على التحدّث عن اهتماماتهم.

يشير الحرف الثالث إلى "السعي لما يجمعكم". يحبّ الناس من يشبهم، الأشخاص الذين يشاطرونهم ذات الاهتمامات والنشاطات والقيم. هذا يسهّل إيجاد التآزر والتعاون.

وأخيراً، وعندما تفعل هذا الأشياء "توقّع" الأفضل. سبب ذلك هو أن تحاول التصدي للاحتراز المفرط من التهديدات الاجتماعية.

 

[1] الخلاطات عموماً هي السماح للأولاد بجلب أصدقائهم من كلا الجنسين إلى الاجتماعات والحفلات حتّى لو لم ينتموا للمدرسة أو الكلية، وذلك يهدف إلى أن يندمجوا مع الآخرين ويتعارفوا مع بعضهم.