عندما يريد الشعب...

إذا صدقنا الرواية الرسمية بأن  «مندسين» استطاعوا بتلك السهولة إثارة الشارع السوري وزعزعة «الاستقرار» فيه بالشكل والحجم الذي وقع، فهذا سيعطينا دلالة وتأكيداً على أن الشارع محتقن أصلاً، والمناخ العام فيه مهيأ لنزول الناس إليه، وأن الاحتقان الاجتماعي ربما وصل إلى ذروته.

 

ولفهم ما يجري علينا أن نبحث عن جذور هذا الاحتقان، والكامنة أساساً في تراكمات خلقها واقع معاشي يزداد تردياً وسوءاً يوما بعد يوم، وتراجعاً عاماً بكل مفاصل الحياة، أثر بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم.

فسورية كبلد عالم ثالثي، تبنت «التوجه» الاشتراكي في القرن الماضي، وأعطت دوراً كبيراً للقطاع العام الذي كان معبراً عن موقع الأنظمة المنحاز آنذاك ورافعة  لاقتصاداتها ضمن خصوصية بلدان العالم الثالث، وكان حجم مشاركته في الاقتصاد مؤشراً ودلالة على حجم الدور الاجتماعي الذي يمارسه.

التراجع الاجتماعي في سورية الذي استشرى نتيجة تحالف البرجوازيتين البيروقراطية والطفيلية، سرعان ما أثمر مفهوم تعددية اقتصادية، ولكن لم يأخذ هذا المفهوم في البداية مداه في المجتمع، ولكنه لاحقاً، عندما تحول إلى التطبيق، طبع المجتمع بطابعه، وظهر تأثيره المباشر عليه، وإذا كان من الممكن آنذاك للقطاع الخاص أن يلعب دوراً اقتصادياً منتجاً ووطنياً مهماً، تحديداً في قطاع الزراعة، إلا أن هذا لم يحدث، بل كرست الأزمات السياسية في سورية، في بداية الثمانينات، المزيد من عمليات نهب القطاع العام وحولته إلى بقرة حلوب لجهازه الإداري والوصائي من ناحية، ومكّنت الفساد، وخاصة الكبير منه، أن يسفر عن وجهه بكل وقاحة، من ناحية أخرى، عندما سوغت  للفاسدين باسم الوطنية القيام بعمليات نهب كبرى يتذكر السوريون أغلبها، وربما كان أكبر مثال عليها إدخال النفايات النووية إلى سورية ودفنها في أراضيها.

استمر هذا النهج حتى أواخر التسعينيات، مما خلق الأرضية المناسبة لاحقاً للفريق الاقتصادي أن يتبنى السياسات الليبرالية صراحة، وكنس من طريقه كل ما تبقى من شعارات «اشتراكية» المرحلة السابقة، إلى أن كان العرس الذي جمع بين قوى السوق والسوء بالإعلان عن اقتصاد السوق الاجتماعي، والتي لم يحسم الصراع بينهما عفوياً، لأن الخلاف بينهما في الأصل، لم يكن في يوم من الأيام، خلافاً عضوياً،  بقدر ما كان خلافاً على اقتسام الكعكة..! وهذا ما أكد أن  مهزلة  اقتصاد السوق لم تكن في  حقيقة الأمر سوى شرعنة لعمليات النهب والفساد الذي انتظم وتعمم واستشرى في جهاز الدولة كسرطان، وتحول إلى منظومة كاملة ومتسلسلة من الفاسدين ابتداء من الموظف الصغير الذي لم يكن فساده إلا نتيجة للفساد الكبير، واكتمل مسلسل نزع المكاسب البسيطة، والمعبرة أساساً عن عجز الدولة عن توفير الاحتياجات الحقيقية للناس، وكانت ورقة التوت الأخيرة التي أسقطتها الحكومة عن المواطن السوري عندما رفعت الدعم عنه، والذي لم يكن وجوده أساساً سوى اعتراف ضمني بالتفاوتات الطبقية، وتجذرها في المجتمع المنقسم إلى «أغنياء» يزدادون غنى وثراء وجشعاً، و«فقراء» يزدادون عدداً وإملاقاً، ثم عندما ظهرت آثاره السلبية المباشرة على الاقتصاد، خاصة في قطاع الزراعة «عصب الاقتصاد السوري »، ألقى المسؤولون اللوم على الله والجفاف في تدهور أحوال البلاد والعباد بدلاً من حل المشكلات المتصلة بها جذرياً، وكان ذلك ممكناً، ولأول مرة في التاريخ تم بيع احتياطي سورية من القمح..

إن كل هذه التراجعات الاقتصادية انعكست سلباً ليس على تردي المستوى المعيشي للناس فقط، بل تجاوزت انعكاساتها السلبية إلى الواقع السياسي والاجتماعي كله. فسياسياً: تراجع دور الأحزاب والحركة السياسية بما فيها الحزب الحاكم، مما أفقده بقية رصيده الشعبي، وتراجعت مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وقد أدى هذا إلى ظهور حالة من النكوص عن مفهوم المواطنة وتراجعها إلى مفاهيم ما قبل الدولة الوطنية.

أما اجتماعياً، فجرى تراجع التعليم وازدادت المشاكل الاجتماعية الناتجة عن ارتفاع نسبة الفقر والبطالة وانتشارهما، وتغير التركيب الطبقي والديمغرافي لسورية. فالفلاح الذي كان ابن أرض وقيم وعادات وتقاليد، هجر أرضه مورد رزقه، وأصبح مستخدماً في المدينة، وانعكس كل ذلك على المنظومة الأخلاقية.. وسلسلة  التراجعات طويلة  شملت أغلب مفاصل الحياة الاجتماعية، وهي بالمحصلة العامة ستؤدي إلى الاحتقان، خاصة أن الأزمة مازالت مستمرة وهي تتعاظم، وقد طالت مختلف القطاعات من الاتصالات والنفط وصولاً إلى التلويح بخصخصة الكهرباء...

لقد أثبتت الحياة أن التراجع عن مكتسبات الناس وحقوقهم، ستؤدي إلى احتقان اجتماعي، يتحول  بفعل الحراك الاجتماعي، إلى الانفجار، وما يشهده الشارع السوري حالياً يؤكد ذلك، حيث لا تكفي العنتريات الوطنية والحلول الأمنية لإيقافه وإخماد جذوته، ولن تنجح  المزاودات الوطنية مع  شعب جائع ممنوع عن التعبير باستمرار.. ولابد من حلول جذرية لحزمة القضايا الأساسية، الوطنية، والديمقراطية وقبلها الاقتصادية – الاجتماعية، عندها يصبح الحديث عن الاستقرار مشروعاً لمن يريده فعلاً.