غيفارا قجو غيفارا قجو

المثقف والحدث.. من منهما يصنع الآخر؟

الثقافة، المثقفون، الحراك الثقافي.. كلمات تتداولها الألسن ليل نهار وخاصة في الأدبيات المعاصرة، لتشير إلى أهمية البنية الفوقية لكل مجتمع.. ولكننا عندما نحاول أن نجد حضوراً لها في مجتمعنا انطلاقاً من رؤيتنا للدور العضوي للمثقفين، نلاحظ أن هذا الدور بالمفهوم الذي نحتاج إليه اليوم غائب بصورة شبه كلية.

وفي العموم فإن تاريخ استعمال وانتشار هذا المعنى في الخطاب العربي المعاصر لم يمض عليه الكثير من الوقت، وبقيت كلمة «مثقف» تدل في أحسن الأحوال على أولئك المنهمكين بفكرهم وأيديهم في فروع المعرفة، والذين يحملون آراء خاصة بهم حول الإنسان والمجتمع، ويقفون موقف الاحتجاج والتنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد والجماعات من ظلم واستبداد.

والحقيقة أن الكلام عن مصادرة الفكر يدفعنا للغوص في الصراع التاريخي بين المثقف والسلطة.. هذا الصراع الذي نجد آثاره حتى في كتابات العلماء والمفكرين عبر التاريخ، والذي اتخذ أشكالاً وقوالب متنوعة باختلاف الإحداثيات الزمانية والمكانية.

إن العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة متشنجة يشهد التاريخ على تفاصيلها، وذلك من خلال النماذج التي أبت الانخراط في دواليب السلطة بشتى أشكالها، ويمكننا أن نذكر في هذا المجال جملة من النماذج الخالدة والمتميزة بتمردها الثقافي.

فإذا كان المثقف هو المفكر وطليعة المجتمع فكرياً واجتماعياً، فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا: ما موقع المثقف السوري من طليعيته؟ ما موقف عامة «مثقفينا» من السلطة؟ ما هو عدد  وحجم ووزن الانتهازيين في صفوفهم؟ وفي اللحظات التاريخية الحاسمة، اللحظات التي تتطلب موقفاً صارماً بين نقيضين من منهم سيقف في صف الشعب يدافع عنه؟ أسئلة لا مفر منها.. ولكن لا يمكن أن يجيبنا عنها إلا المثقف نفسه..

المثقف هو الذي يضحي بحفاوة الاستقطاب لدى السلطة السياسية، وينعزل عنها ليترك الهامش الذي يمكنه من انتقاد الحكم، وتصحيح مساره وخلق وعي ثقافي داخل فئات المجتمع.. ربما قد يكلف هذا الأمر كثيرا لأن السلطة لا ترحم دائما من ينتقدها و يقوم اعوجاجها.. لذلك في النهاية، المواجهة حتمية حتى لو النتائج جاءت وخيمة.. علماً أن المواجهة بين السلطة والمثقف المتمرد، قد أخذت تاريخياً أشكالا متنوعة وصلت في معظم الأحيان حد العنف والسجن والنفي، وكثيراً ما كانت تؤول إلى عزلة ثقافية وتهميش إعلامي.

يقول إدوار سعيد: ربما على المثقف أن يكون هاوياً يحشر أنفه في كل شيء حتى يبعثر أوراق السلطة فلا تجد له طريقا لإيقافه واحتوائه.. لكن يمكن للمثقف الإنتهازي أن يستغل فكره في خدمة السلطة وبذلك يكون قد اختار الطريق الأسهل. وفي كل الأحوال تبقى السلطة التي تجعل من احتواء المثقف وإزعاجه من أولوياتها هي تلك التي تفتقد للشرعية والحرية وتكون بعيدة عن العدالة الاجتماعية.

ماذا عن مجتمعنا ومؤسساته الاجتماعية والثقافية اليوم؟ إنها عبارة عن مجموعة مؤسسات «رقابية - عقابية» بدءاً من  المؤسسة الأسريّة، وصولا للمؤسسات الحكومية بشتى أسمائها.. ولقد أصبح الهم الأول لمثقف «السلطة» منح «النظام» السياسي الشرعية مقابل أن ينعم بالعطاءات المادية والترقيات والمناصب الرفيعة، ويمكن وصفه بأنه الأداة والبوق الإيديولوجي عند المتحكمين بشؤون الناس لأنه يمتلك القدرة على تزييف الحقائق، ويخفي بمهارة أهداف أعداء الناس الذاتية المحدودة، ويحولها بمهارة إلى أهداف سامية باسم الشعب والأمة والوطن.. مستخدماً كل المخزون الفكري والمفاهيم الأخلاقية لدى الناس ولصقها بسلوك المستبدين، ليصبحوا فاضلين وقديسين..

هذا «المثقف» لايكف عن الهتاف فهو يترزّق من هتافه، ليتحول بالتدريج إلى مستبد صغير فيساهم في توالد الاستبداد وإعادة إنتاج شروط إنتاج الاستبداد من جديد،  فيتكرس في المجتمع استبداد ديني وثقافي واجتماعي –اقتصادي.

هؤلاء «المثقفون» هم المسؤولون عن فساد العقل لأنهم حولوا العقل من وظيفته النقدية إلى أداة تبريرية للأنظمة العاجزة، وجندوا أنفسهم كمروجين بارعين للشعارات التي يؤدلجونها ويسوقونها ليل نهار..

من منا لم يشاهد المخرج خالد يوسف وبجواره الموسيقار عمار الشريعي في ميدان التحرير؟ أنا واثق أن كل مثقفي سورية شاهدوا ذلك، وشعروا بالغبطة حيال ما رأوا، لذلك فاليوم، ما من مجال للتواري أو الإمساك بالعصا من المنتصف بعد أن قال الشارع كلمته.