المرياع...
لي خالٌ قضى جلّ سنين عمره في الرعي، يتنقّل في الحد الفاصل بين الصحراء السورية والداخل، على خطّ المطر الأخير. وكان هذا الرجل لا يطيق المدنيّة ولا التمدّن، يشتهي الفرار من المنزل دوماً إلى حيث ينام وخرافه في البرّيّة، ويوازي صوت نباح كلبه عنده ربّما صوت إيديث بياف لدى كلاسيكيي المدن.
أتت الحرب فجأة، زاحفة إلى الداخل السوري حيث باتت مدينة سلميّة وريفها ممزّقة بين جميع المتحاربين، وباتت الصحاري التي قطنها البدو غير الرحل في السنين الماضية تحت حكم المسلحين الذين يحاربون الجيش. وقد حافظ الجيش بدوره على سيطرته على مراكز الأرياف الكبيرة والمدن. واستمرّت المعارك بين الأطراف عاماً فآخر حتّى وصلت في وقت هذه القصّة إلى أربعة أعوام.
كان إبراهيم خالي في هذه الأثناء ممّن ارتبطوا، لعديد من الاعتبارات بالتصنيف الذي يُخضعهم للقاطنين في مناطق سيطرة الجيش، وعليه لم يعد بإمكانه بعد الآن أن يمضي إلى براريه التي ألفها مثل زوجة، وإلى أغنامه الذين ألفهم مثل أبناء. فبات بعد ذلك الحين بينه وبين هؤلاء طلاقٌ إلزامي.
لم يعد بإمكان إبراهيم، الذي نزح بعياله منذ بداية تأزّم الأوضاع إلى سلميّة المدينة، تربية الأغنام هناك. ورغم محاولاته لشراء فطيمة (صغيرة الغنم) ليربيها بداخل المنزل، فقد جوبه برفض من أسرته وإخوته، ولم ينفع تعهده بأنّه مستعد لينام بجانب فطيمته ويعتني بها.
وبعدّ أن مضت كلّ تلك الأعوام على إبراهيم وهو محروم من أغنامه، بقيادة مرياعه العزيز – (المرياع: هو الكبش الذكر القائد لبقية الأغنام وهو عادة مفخرة الراعي، فتجده يلوّنه ويلبسه الأجراس ويلف قرونه التي كلّما زاد حجمها كانت دليلاً على ريادة المرياع) – فمضى إلى السوق نافذ الصبر، والمرياع الخيالي الذي لم يفارق أحلامه منذ مدّة هو من يقود خطواته.
عندما عاد إبراهيم إلى منزله الخالي من النوافذ الزجاجية – (ومن لديه القدرة ليتحمّل كلفة الزجاج الآن، فالنايلون أرخص) – بدا في غاية السعادة، وهو الشيء الذي استغربه أولاده الكبار وكذلك زوجته.
مضى إبراهيم إلى زاوية الغرفة حيث اعتاد الجلوس بجانب المذياع القديم. أطفئ صوت المذياع، نظر إلى أولاده الصغار بينما كان يخرج كيساً ملفوفاً بإحكام من جيب جلابيته. حلّ ربطة الكيس، وأخرج شيئاً مبهرجاً ذو «شباشيل» – (خيوط معقودة للزينة، عادة ماتكون حمراء اللون) – وما كانت هذه الشباشيل سوى الخيوط المدلّاة من الجرس، إنّه الجرس الخاص برقبة المرياع.
بدأ إبراهيم برنّ الجرس تباعاً وتباعاً، الأمر الذي كان في البدء غريباً ومستهجناً، ولكنّه استمرّ في هدهدة الجرس لأعلى ولأسفل وكأنّه ومالك الدنيا سواء. أعلى فأسفل، أعلى فأسفل، وهو يستمرّ بالضحك...