أوقات للتوجّس..

يمكن الجزم أن الأوقات العصيبة التي تمر على البلاد وأهلها الآن، لا سابق لها منذ عقود طويلة، حتى أصبح من الجرأة على أيّ ذي بصيرة أن يبدي تفاؤلاً خالياً من الحذر والتوجّس والخشية من احتمالات الآتي الصعبة بغالبيتها..

لقد فات ذلك الأوان الذي كان يمكن فيه لمبهجات صغيرة أن تخلق فرحاً عارماً.. فات حتى بات من الصعوبة بمكان انتزاع ابتسامة حقيقية من أيّ مواطن بسيط يتابع ما تبثه المحطات المحلية وغير المحلية.. ويستمع لما يقوله الرسميون وغير الرسميين، وما يفتيه المفتون المتباينون في المواقع والمصالح والاصطفاف، وما يحلله المحللون، وما يحرّمه المحرمون.. ويبصر حال الشوارع والأحياء والأزقّة وأماكن العمل أو التسلية وهي تلوّح بالعواصف الموشكة على الهبوب.. ويرى الكثيرين من إخوته وأصدقائه وجيرانه وهم يُدفعون إلى ما قبل الأخوّة والصداقة والتجاور.. فكيف يمكن استيلاد الفرح في مناخات مليئة بالغبار والسديم كهذه، وفي غمرة اضطراب متفاقم ماض حتى الآن، في أغلب السيناريوهات المستشرَفة، إلى مآلات يصعب تصور مدى قسوتها وظلمتها..

تأخر حَمَلةُ الأخبار السارة عن الوصول حتى سئم المنتظرون من قلق الانتظار وحماسته وشغفه، فغادر الكثيرون منهم التلة المشرفة على الترقب إلى عفوية الصراخ والرغبة بالانعتاق.. وهكذا لم يستطع وعد رفع حالة الطوارئ حين أتى متثاقلاً خلق حالة تفاؤل، ولم يفضِ إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي إلى فرح استثنائي، ولم تغرِ سلة الإصلاحات أيّ يد لتفتش في داخلها عما كانت تشتهيه الأصابع والعيون والمهج المتعبة.. فأحياناً تخرج الأشياء عن مألوفها، ويصبح التأخر الذي اعتدناه أفضل من عدم الوصول، يساوي عدم الوصول، وللزمن أحكامه التي قد يفاجئ الجميع بها مرة كل مائة عام.

وكما لم يجدِ الوعد، لم يجدِ الوعيد، ولا تنفيذه واعتماده أسلوباً لتصحيح ما بدا اعوجاجاً وتجاوزاً للأصول و«الفروع» و«الأقسام» والاقتسام.. وهبّ آخرون لدخول فسحة الانبعاث الجديد، ومحاولة قياد الأمل العفوي البريء الخارج حديثاً إلى النور الشهي المراوغ وجرّه إلى ظلمة أكثر سواداً عند أول منعطف زلق، وها هم الجميع، المتأخرون عن جهل أو طبيعة مانعة، والمنبعثون على غير بصيرة، والمتربصون بخبث، في حلبة واحدة تختلط فيها الأشياء لدرجة الإبهام، أما الصامتون الكثر الذين ما زالوا يلوذون بأملِ مبشّرٍ جديد يحملهم إلى أحلامهم ويحمل عنهم تعبهم الطويل، القابعون حتى الآن في دواخلهم الموشكة على الانفجار، فهم يبحثون عن قلب جريء وعقل بارد وكلمة سحرية تفتح لهم الأقفال الغليظة الموصدة، وتعيد تشكيل اللوحة الغامضة على وضوح أنصع وأبسط من تطلعاتهم الجذرية العميقة..

اليوم، وقد وصلت البلاد إلى منعطفات مصيرية خطيرة، ربما لم يعد من المجدي كثيراً الاعتراف بأن زمناً ثميناً تم هدره في التلكّؤ، أو في المكابرة والاستكبار، أو في التغافل عن استحقاقات لا تقبل التأجيل، ولكن قد يفيد هذا الاعتراف - بما يعنيه من تواضع إنساني غاب كثيراً حتى أصبح الشك بموته مشروعاً - بالمساعدة في حشد ما يمكن حشده من الطاقات الموحدة لتجنّب الانجراف الخفي غير المدرَك نحو الهاوية..

سورية الجميلة الساحرة، سورية التي توصف بأنها أكبر بلد صغير في العالم، سورية التي يجب على الجميع أن يتطهر قبل ملامسة أرضها لأنها أرض مقدسة، سورية التي عصت أنهارها الأنهر، وعصت جبالها الغزاة، وعصت سهولها الجوع، وعصت سماؤها الغربان المعدنية، وعصت حواضرها الاندثار، وعصى شعبها الانقياد والتغريب والتفتيت والفرقة، وعصت روحها الانغلاق والظلامية والانحلال والتفسّخ... تحتاج الآن إلى شعبها وشخصياتها ومثقفيها وقواها النظيفة الجريئة لتجتاز أكبر اختبار تخوضه على مرّ العصور.. وإلا سنفقدها إلى الأبد...

mjihad@kassioun.org