ويبقى الجلاء العروةَ الوثقى
منذ خمسة وثلاثين عاماً ونيف كتب محمود درويش، فيما كتب، في يومياته «يوميات الحزن العادي» قائلاً: والليلة عيد ميلادك ـ الثالث عشر من آذار ـ وأنت تريد مناسبة لانتزاع المرح الكاذب من جهامة الأيام الصارمة. تدعو أصدقاءك... تتآمرون على الكآبة بالكأس والموسيقا والنكات الجارحة.
يرتفع صوت الموسيقا وترقصون. تصل ضحكات الفتيات إلى نوافذ الجيران. وفي منتصف الليل يأتي البوليس. يتحقق من هويات الحاضرين، ويهددك بالاعتقال: كونوا مهذبين. كفى بربرية! نسأل عن السبب، فيقول لنا: إن الجيران قد استدعوه ليحافظ على هدوء البناية من مرحنا. تقول له: عيد ميلاد. يقول: لا يعنيني... أيها الجيران الطيبون! لماذا لم تنبهوني إلى أن فرحي يؤلمكم؟ لماذا تنهمر موسيقاكم المأخوذة من لحمي على نوافذي كل ليلة.. ولا أحتج؟ متى تخرجون من حلقي ايها الجيران، متى؟ وحين تأوي إلى الفراش لتنام، تقتنع بأن الجيران كانوا على حق (..!) في الصباح تعتذر إليهم قائلاً: لا يحق لي أن أحتفل ما دمت جاركم... سامحوني ايها الجيران، فقد تبت عن الاحتفال...
أجل.. الملك هو الملك، والاحتلال هو الاحتلال.. ولا لقاء بين الجلاد والضحية.. بين القاتل والقتيل.. ولا لقاء بين السيد القوي والعبد الضعيف... بين السجان المدجج بالسلاح والبغض.. والسجين العاري إلا من حلم مفتوح على كل مواعيد.. ولا موجة أثيرية موصولة بين موسيقا السلام والمحبة والفرح.. وبين موسيقا الحرب والعنصرية والبربرية.. الحق والباطل لا يلتقيان، فهما في حالة طلاق أبدي...
من الممكن جداً أن تحتفل بهذا العيد أو ذاك، ولكن أي عيد سواء أكان خاصاً أم عاماً، وسواء كان شخصياً فردياً أم جماعياً.. وسيان أكان سياسياً أم دينياً أم اجتماعياً إنسانياً.. من المستحيل أن يكون له معنى ودلالة وقيمة حقيقية إذا علم بلادك انطوى، ونشيدك الوطني كف عن الإنشاد.. وإذا أرضك احتلت، وتلوت، وأنت.. تحت أقدام الغزاة ودباباتهم ومصفحاتهم وطائراتهم وجحيمهم وعملائهم وأزلامهم... أي عيد هذا الذي تريد أن تحتفل به، وفيه، وأنت محاط بسياج التهديد والوعيد والإكراه، والقسر والاستقلاب، والمصادرة والقمع والإرهاب النفسي والعاطفي والفكري والجسدي..؟ وأي عيد هذا الذي تريد الاحتفاء به وتاريخك، آثارك، تراثك، خيراتك، جنى حقولك، مستقبلك، حاضرك، ماضيك وكل شيء، كل شيء أمام ناظريك يسرق منك وينهب..؟ وفوق هذا أو ذاك أنى لك الاحتفال باي عيد من الأعياد، وأنت غريب اللغة والثقافة، ومنفي داخل وطنك ـ بيتك الأزلي...؟ وأنى لك الاحتفاء وحياتك نفسها في أتون الاحتلال لا معنى لها، ولا طعم، ولا لون.. ولا تساوي أكثر من طلقة واحدة..؟
إذاً، عيد جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية (نيسان 1946) التي ما انحنت يوماً لغازٍ قيد شعره.. هو عيد العزة والكرامة الشخصية والوطنية والقومية والإنسانية.. إن عيد الجلاء المبارك من الأرض والمساء الساكن، ما بقي الليل والنهار، في العميق من أرواحنا وعقولنا وضمائرنا ووجداننا وحياتنا يبقى واقعياً وعملياً وحقيقة عيد الأعياد وسيدها وقبلتها على مر الزمان...
أجل.. يا «محمود» في حالتنا الراهنة نحاول، على هذا النحو أو ذاك، انتزاع المرح العابر من بين مخالب الذين يريدون تفتيت وحدتنا الوطنية، وتمزيق أرواحنا المسكونة أبداً في كل ذرة من ذرات ترابنا الوطني العربي الحر السيد..
أجل.. يا «محمود» فرحي يؤلم المستعمر ومن يدور في فضائه... وفي هذه الحقبة المفتوحة على الاحتمالات كافة لن أجعل موسيقا القتلة الدامية تنهمر على نوافذ قلبي، وتقيم في خلاياي الرحيمة النبيلة... فأنا خرجت خروجاً أبدياً من سياج الأسر الوحشي.
ومن زرد السلاسل.. ودمائي العروبية الأبية ما برحت تتدفق في شرايين قلبي التاجية.. وأنا ـ من قبل ومن بعد ـ سليل (يوسف العظمة) الذي ما هاب ويوماً غاصباً ومحتلاً ولو طرفة عين..
أجل.. يا «محمود» يمكننا تأجيل الاحتفال بالميلاد الشخصي، أو إلغاءه حتى لا نعكر هدوء أحد.. لكن المسألة نفسها تتغير مع ميلاد الوطن المجيد حين تعكر صفوه محاولات الفرقة والتشرذم والانكفاء ما نحتاجه هو إعادة ميلاد الوطن بجلاء كامل عن أي أرض عربية سليبة ولو ذهب هدوء العالم أدراج الرياح.