الـ«وسيم» بين ركام الحرب والذكريات..
أحاول تحصين روحي من المشاهد المتوقعة التي أعلم أنها بانتظاري على طرفي الطريق المؤدي إلى معمل (الوسيم)، أجرب استعارة بعد الصور من ذاكرتي القريبة وأربطها كفيلم قصير يشبه ما أتوقع رؤيته عسى أن أخفف عن نفسي وطأة الفجيعة، أو لعلي أفلح في إقناع نفسي بأن ما سأراه لاحقاً أمراً عادياً لا يستحق الألم.
نغادر ضجيج الحياة من (باب شرقي) قاصدين المفرق المؤدي لمدينة المليحة، بضع عشرات من الأمتار في بداية الطريق كانت كافية كي يبدأ الضجيج بالتلاشي، فاسحاً المجال لهيبة الهدوء الموحش بالسيطرة على المحيط. أعتدل في جلستي والصق وجهي بزجاج السيارة راصداً أحد طرفي الطريق. يترفق المكان بنا ويعفينا من رؤية المشاهد المؤلمة دفعة واحدة يعطينا الواقع مشهداً إثر مشهد فلا شيء بالطريق على طبيعته التي أعرف. لقد تغيرت التفاصيل كلها، واستبدلتها الحرب بتفاصيل أخرى جعلت منه شيئاً آخر تماماً غير الذي كان موجوداً، شيء مشوه، عديم الروح لقد تميز هذا الطريق قبل الحرب ببساطته وفوضويته، لم يكن يشبه أي طريق آخر كانت له ميزته الخاصة، فقد كان في عيون رواده أجمل من أوتستراد المزة وشارع الحمراء لأنه ببساطة كان طريقهم، كان مكانهم.
هذه البيوت المهدمة والمحروقة كانت بيوتهم، فيها أقاموا صلواتهم وأفراحهم، وفيها أنجبوا أول أولادهم، في هذه البيوت المتبخرة والمتفحمة والمثقوبة زف أصحابها كل يوم عروس، وأقاموا (عراضة)، هنا أمام هذا البناء الذي يقف على قدم واحدة بعد أن بُترت أطرافه المتبقية، وتمزق جسده من الشظايا. أمام هذا البناء بالذات لعب الأولاد (الغميضة) وتعاركوا فيما بينهم، تصايحوا وتشاتموا وتضاربوا، ثم انسحبوا مساء إلى بيوتهم. لم تكن تلك المعارك الصغيرة شيمة الصغار فقط، الجميع هنا كان يتعارك مع فقره، وبؤسه. كانوا يحاولون ويحاولون، لكنهم في النهاية تركوا كل شيء وراءهم ورحلوا، بل رُحِّلوا للمجهول. كانوا هنا جميعهم، لكنهم فجأة رحلوا، تاركين وراءهم كل شيء، نجاحهم وإخفاقهم، بساطتهم وألمهم المصاحب لوجودهم، تركوا أحلامهم الصغيرة، وألعاب أطفالهم والبومات صورهم لتعبث بها الحرب أو تدفنها، لم يحملوا معهم سوى شجاعتهم وإيمانهم وغضبهم، وبضع بطانيات ودفتر العائلة.
تستمر تلك الصور الموجعة على طرفي الطريق طوال الوقت، كما تستمر الوحشة التي تحتل المكان، فلا أثر للحياة هنا. أسأل نفسي بخجل شديد هل يأتي العاملون إلى المعمل من هذا الطريق كل يوم، هل يشاهدون كل يوم ما أشاهده أنا، هل حقاً في مكان ما هنا يوجد أناس يعملون؟! لا يمكنني منع نفسي من التزام الصمت، رغم وحشته، فحضرة المكان وهيبته أشبه بهيبة المقابر والأماكن المقدسة، وكأنما أرواح من كانوا هنا تحوم فوق الركام البغيض، لن يطول الوقت حتى نصل للمكان المنشود، أشعر بالشوق لرؤية من يعمل هنا، أحتاج لرؤيتهم لأرى من أي الأصناف هم، ربما أتمكن من فهم شجاعتهم أو تلمس إيمانهم.
ما أن دخلنا إلى قلب المعمل حتى بدأت صور الحياة تتصدر المشهد، أكثر من أربعمائة من العاملين يشتغلون هناك في داخل المبنى، يتحركون بنشاط وحيوية يتحلون بأعلى مستويات الإنسانية والعنفوان يبدو عليهم الشقاء والوجع لكنهم خبؤوه وراء إصرارهم على العمل، وإصرارهم على الحياة، عشرون ألف في الشهر أو تزيد قليلاً هو الأجر الذي يحصلون عليه، يتمسكون بعملهم و بلقمة أولادهم وبوطنهم لا شيء يمنعهم من الأمل يؤمنون بالمستقبل ويعملون من أجله فالطريق المحفور بين الركام إلى المعمل ليس بالنسبة لهم سوى الأزمة وبقائهم في المعمل هو التعبير عن الخلاص من الحرب وبقاء البلاد.