من حكايا مائة عام وعام.. وحكايةُ جدّتي الأرمنية!
كان يا ما كان في قديم الزمان، منذ مائة عامٍ وعام وفي مثل هذه الأيام، تعرضَ شعب كامل، برجاله ونسائه وأطفاله وشيوخه للقتل والتشريد والترحيل والنهب واغتصاب الحقوق واغتصاب الأجساد..
منذ مائة عامٍ وعام سال الدم من أكثر من مليون إنسان، وكثير من أسمائهم بقيت مجهولة، كما بقي السبب الحقيقي لمذابح الشعب الأرميني بين أخذٍ وردّ، وبقيت المواقف منها متأرجحةً بين الصمت المتعمد، والحديث الخافت في بعض الأروقة، لكن الذاكرة الحية للشعوب بقيت تنقل ما حدث عبر قصص منذ مائة عام، وعام من عمر هذه الجريمة بحقّ البشرية، وانتقلت إلينا منذ طفولتنا من الجدّات الأرمنيات القريبات، وفي الأحياء المحيطة، حيث كنّا نتحلق حولهن لنستمع لقصصهن، تبعث فينا الدهشة، وبلغة عربيةً مكسرة ترسم ابتسامات شقية على شفاهنا البريئة..
«حبّابة نُورية»
حبّابة «نُورية» بتشديد الباء وتفخيمها باللهجة الفراتية هي الجدة، ولم يكن اسمها الحقيقي الذي ما زلنا نجهله، وكأنها هي نورانية بوجهها الذي بقي بريئاً حتى أواخر حياتها. كانت حبّابة نورية تجلس صباحاً على كرسيها أمام بيت ابنها في حي الحميدية في دير الزور في مواجهة الشمس بجسدها النحيل وظهرها المنحني، وتقص علينا حكايات طفولتها وتصف حديقة منزل أسرتها، والثلوج التي كانت تتساقط شتاءً، لتتحول في الربيع إلى جداول تسيل من كل اتجاه ولا تدري أين تتجمع وتذهب، فيقفز ذهننا فوراً إلى (نهر الفرات) الذي تعلمنا فيما بعد أنه ينبع من هضبة أرمينيا لنكتشف كباراً أنّه (الحبل السري) الذي ربط ويربط بين الشعبين السوري والأرميني، وهو سر التعاطف الكبير والاحتضان لهم في الجزيرة والفرات، وفي كلّ سورية، وهو الذي يربط ويغذي شعوب المنطقة، شعوب الشرق من عربٍ وكردٍ وسريان وأرمن وآشوريين.!
خوالي الديريين
ما أن تلتقي بأرمني في مكان ما، ويعرف أنك من دير الزور حتى يبادر بفخر واعتزاز، خوالي الديريين، وينطلق يتحدث بلهجةٍ ديرية ليعبر عن فرحه باللقاء، وفي كل عام يحيي الأرمن ذكرى المذابح ويأتون من أنحاء العالم كلها إلى كنيسة الشهداء في وسط دير الزور، ويذهبون إلى النُصب التذكاري الذي أقيم في منطقة (مركدة) تخليداً للشهداء، بين دير الزور والحسكة، والتي سُميت بهذا الاسم لحدوث مذبحةٍ كبيرة قامت بها الجندرمة العثمانية في أثناء سوقهم للأرمن وترحيلهم وكثرة القتلى الذين رقدوا فيها.!
حبّابة أم علي
أما قصة «حبّابة» أم علي فهي تلخص مأساة الشعب الأرمني، فقد قتلت أسرتها أمامها وأمام أخيها الصغير وكان عمره 12 سنة، وهربت وإياه، وحين حاول الدفاع عنها قتلوه أمام عينيها، واستمرت في الهرب مع آخرين، يقتلهم الخوف والجوع والعطش، وكانوا ضمن «السوقيات» فيما بعد، وهم يتعرضون للضرب المبرح والاغتصاب، حتى وصلوا إلى ضفاف الفرات، ووقفن حائرات فلا يعرفن السباحة، وعندما سمع بهن أبناء الفرات من الضفة الأخرى عبروا النهر وخاصةً الشباب، واحتاروا كيف يمكن تعبيرهن وهن غريبات، وجرى عقد زواج لكل واحدةٍ مع شبّ ليتمكن من تعبيرها النهر وأخذها إلى أسرته كزوجة له، ومن بقي منهن نقلن إلى بيت المختار أو أحد الوجهاء في دير الزور، وتم الزواج منهن من شباب المدينة، وأكثر ما كان يثير فرحنا حين تتحدث حبابة أم علي بلغةٍ مكسرة فتؤنث المذكر وتذكر المؤنث، فتقول لأحدنا: انتِ ولد شقية.! وكانت تغني بالأرمنية أغانٍ حزينة وهي تبكي، ولم نكن نفهم كلماتها لكننا كنا نتأثر بها وبصوتها، وأحياناً أحفادها الصغار مثلنا يترجمون لنا بعضاً منها، ولما توفي الجد أبا علي أرادت أن تلقي بنفسها في نهر الفرات حزناً عليه وهي تصيح: يا بيلي.. أي يا ويلي.!
جيرار باغدشيان
مغنٍ أوبرالي من أهالي دير الزور الأرمن، في فيلمٍ تسجيلي، يقول: «اللي يكون بعيد عن أرضه لا تصدق أنه يعيش مستقر، تهجرنا مرةً ثانية هجرة غير شكل، وهالمرة أنا والديري، رحت على أرمينيا كنت ما ألاقي حالي أنا بلدي سورية، وظلت دير الزور حلم وصورة وروحي متعلقة بدير الزور وأهلها وجسرها ونهرها، صحيح الجسر المعلق سقط لكنه سقط في أحضان الفرات، وراح يجي يوم ونعلق الجسر مثل ما روحنا وجسدنا وكلنا متعلق بدير الزور، وآخ عليك يا وطن»!
بهذه الحكاية من جيراي التي تعبر عن عمق العلاقة بين أبناء شعوب المنطقة، نتوقف عن الكتابة لنترك للمشاعر والصورة أن تختصر مئات .. بل آلاف الحكايات والتي لم يروَ منها سوى القليل القليل، فكم من شهرزادٍ أرمنية وشهرزادٍ سورية سكتت عن الكلام المباح في شوقٍ إلى الصباح.!