جسدٌ على الجسر
إنّ جميع أنواع الأدب، من قصص قصيرة وروايات ومسرحيات وشعر، إمّا يستخدمها الكاتب ليعبّر عن رأيه في عالم نقي، أو يستخدمها مموله ليعبّر عن أجندته وأيديولوجيته في عالم يشوب نقاءه المال. ومن هنا، لا يمكن لأيّ نتاج أدبي ألّا يخدم توجّهاً معيناً أو موقفاً مسبقاً أدّى إليه التركيب الثقافي للمؤلف على أقل تقدير.
ينصبُّ اهتمامي هنا على الأدب المرتبط بمشاكل الإنسان الاقتصادية الاجتماعية في ظلّ صراع طبقي مرير، وعلى الأدب الذي رصد تطوّر هذا الصراع ومراحله ومعاناة المكافحين العالقين داخله.
وقد يقول قائل، كما سمعت في أماكن عدّة من قبل، بأنّ الأدب وفلسفته مجرّد ترف فكري لا يصلح للالتزام بقضية الكفاح ضدّ الرأسمالية والاستغلال. لكنّ الأدب بمختلف صنوفه قادرٌ على تزويدنا بتفاصيل ووجهات نظر أكثر غنى ودقّة واستفاضة عن البشر والبيئات والظروف التي يُجبرون على العيش فيها، منها من الكتب الأكثر علمية والأقل أدباً. إن كان ماركس قد قام بتشريح الوحش الرأسمالي ليصل إلى اكتشاف بنيته وهيكله العظمي، فإنّ الأدب قادرٌ على وصف هذا الوحش وهو يتحرك بلحمه ودمه محاولاً تدمير كلّ ما يعترض طريقه.
ينسى أو يتناسى أولئك «الملتزمون» الذين يقدّسون قول: «مشكلة الفلاسفة أنّهم يسعون لفهم العالم بشتّى الطرق فحسب، بينما يجب تغييره» ويستخدمونه في غير سياقه، شيئان رئيسيان: أولهما أنّ ماركس نفسه كان فيلسوفاً، وثانيهما أنّ هدف التغيير الأقصى، وهو تجاوز الرأسمالية والاستغلال، والذي سينجم عن الفهم النظري واستخدامه في عملية التغيير، لن يتحقق دون الاستعانة بكامل الوسائل الممكنة لهذا الفهم. والأدب الذي يشكّل في صلب هذا الفهم تعبيراً وجدانياً أصيلاً عن الناس والبيئة الذين أفرزتهم علاقات الاستغلال، والذي يوصّف مراحل التطوّر والتغيّر الواقعة على هؤلاء الناس وعلى نضالهم، هو شرطٌ لازم لتحقيق هذا الهدف.
كثيرة هي الأعمال الأدبية، سواء منها القديمة أو الحديثة، التي تدرج البؤس في صلبها وتنصف البؤساء حتّى. لكنّ ليس هذا هو الأدب الذي أتحدث عنه، بل عن الأدب الذي يدور بكامله، هو وشـخصياته الرئيسة، عن التعبير عن مشاكل الإنسان وعن معاناته، وليس عن البؤس الجانبي الذي يدرّ بعض الدموع وحسب.
(2)
«لا، إنّه الفقر، والفقر وحده من يفعل هكذا أشياء للفقراء. إيّاك أن تجرؤ على إخباري بذات القصّة المكررة، تلك القصّة عن كون الأثرياء لا يعلمون شيئاً عن محاكمات الفقراء. إن كانوا حقّاً لا يعلمون، فعليهم أن يعلموا. نحن عبيدهم طالما أنّ بإمكاننا العمل. نحن نجمع لهم ثرواتهم بالعرق الذي يقطر من حواجبنا، ورغم هذا نعيش وإياهم منفصلين كما لو كنّا نعيش في عالمين اثنين».
لأنني وددت أن أبدأ بشيء من الترتيب، فقد أوردت هذا الاقتباس من رواية «ماري بارتون» للكاتبة إليزابيث غاسكل، والتي تعود للعصر الفكتوري. لقد استطاعت غاسكيل، بأقصى ما تستطيع امرأة من الطبقة الوسطى في العصر الفكتوري أن تفعل، أن تصف في هذه الرواية معاناة العمّال الإنكليز وحياتهم المزرية في الأكواخ الفقيرة، وأن تبعث الحياة في وقائع بؤسهم بالمقارنة مع الثروات التي يجنيها من يستغلونهم لينفقوها على الترف.
انتهت رواية غاسكيل نهاية سعيدة بزواج البطلة ممّن تحب. ولكنّها لم تبقَ في إنكلترا بل سافرت واستقرت في كندا. أظنّ بأنّ هذه النهاية تعبّر عن قنوط الكاتبة من قدرة النظام الرأسمالي على «تصـحيح نفسه»، ولهذا وبسبب واقعيتها وابتعادها عن المثالية الرومانسية الروائية، دفعت بالبطلة إلى أرضٍ جديدة لم تكن الرأسمالية قد كررت نفسها فيها بعد، وذلك في تعبير رمزي عن البدء من جديد في بيئة أكثر نقاءً.
لم يقتصر هذا الأدب على لفت الانتباه إلى المعاناة الحتمية التي تنتجها الرأسمالية، رغم كونها مسألة مهمّة بحدّ ذاتها، بل حاول الأدباء أن يجدوا ويقترحوا حلولاً لتحسين الحياة. فرغم أنّ طروحاتهم لم تكن جميعها ثورية بالتعريف الماركسي للكلمة، فقد حاول هؤلاء الكتّاب طرح حلول، ولو جزئية، للتخفيف من حدّة الصراع الطبقي، والتنويه بنتائجه الوخيمة إن استمر.
(3)
«الجوع هو أفضل داعية لقضيتنا يا أستاذ».
هل حقّاً هواء البؤساء واحد؟ ربّما نعم، فالماكينة الرأسمالية تطحن الجميع ابتغاء تغذية ربحها أينما حلّت. وربّما لا، لأنّ فرص من يعيشون في دول المركز تختلف بلا شك عن فرص أولئك الذين على الأطراف. هذا ما يخبرنا به عمانوئيل سكورزا على الأقل في رائعته «ضريح الأمل».
تتحدث الرواية عن مزارعي البيرو في الجبال، وهم الذين تمّت مصادرة أراضيهم بشطبة قلم عندما منحتها الحكومة المركزية لشركة أمريكية. ولكنّ الأمر لا ينتهي هنا، فسكورزا، وهو الذي كان منخرطاً في انتفاضة مزارعي البيرو وتمّ نفيه من البلاد فيما بعد، يعبّر في روايته عن التعقيدات المتتالية للوضع هناك، وهو الوضع الذي يتكرر في جميع دول الجنوب.
تطبّق الحكومات قراراتها باستخدام القوّة العسكرية، لكنّ العسكريين ليسوا أفضل حالاً من المزارعين عادة، وهذا ما يفهمه كتّاب مثل سكورزا تمام الفهم. ورغم اعتراف هؤلاء بعدم القدرة على تجنّب هكذا مواجهات في بعض الأحيان، فإنّهم يحاولون تجنّبها بأقصى ما يستطيعون:
« - على كل حال سوف يقتلوننا، فيجب أن نموت ونحن نقتلهم!
- ليس المقصود أن نقتل ولا أن نموت. المقصود أن نعيش ونبقى على قيد الحياة لكي نستولي على السلطة.
- "جينارو" ...!
- قلت كلّا، يا للشيطان! وبدلاً من قتل الناس، إن كانوا عسكريين بـبزّاتهم الرسمية أم لا، فإنّي أفضّل أن أعدم رمياً بالرصاص! وإنّه لأحبّ إليّ أن أموت بريئاً من أن أعيش مجرماً».
يمكنك من خلال رواية كـ«ضريح الأمل» أن تتقمّص شـخصية أحد مزارعي البيرو بحق، وليس أن تقرأ عنهم فقط عبر تقرير رسمي، أو عبر استشهاد في حلقة بحث. يمكنك من خلالها أن تعيش المشاكل التي تكررت في كلّ مكان في العالم النامي تقريباً. وإحدى هذه المشاكل هي تنظيم الحركات الثورية. فهنا أيضاً يبرع سكورزا في إيضاح نقده لتجربة الحزب الشيوعي البيروفي الذي كان نصوصياً في الممارسة.
(4)
لا أريد هنا أن أتحوّل إلى باحثٍ أو ناقد أدبي متخصص، بل أردت أن أقول بأنّ للأدب في معادلة الكفاح ضدّ الاستغلال وكامل الأدوات التي يستخدمها في تثبيت نفوذه، وجودٌ لا غنى عنه. فهو صدى صرخات المجتمع التي تبقى تتردد مع كلّ صوتٍ مشابه. فوادي البؤس والمعاناة عميق ومتسع، ونحن بحاجة للأدب كي نتحول به جسداً يخطو بثباتٍ فوق جسر الفكر التحليلي المباشر.