«دَقَّة قديمة..»
فور جلوسي بالمقعد المخصص لي في باص البولمان صفعت أذنيَّ أصواتٌ مبحوحة من السمّاعة المثبّتة فوق رأسي بسقف الباص. انتبهتُ قليلاً إلى ماهيّتها، تبيّن أنها تعود إلى مغنٍّ يلقّب بسلطان الطرب! الصوت مشوّش وكأن «البافلات» أصبحت بسبب قدمها بحاجة لأن تحال على المعاش. فالتشويش أقوى من صوت المطرب والموسيقى المرافقة.
الرحلة طويلة من دمشق إلى اللاذقية. وخاصةً في ظل الأوضاع الراهنة بسبب الحواجز ونقاط التفتيش وتغيير مسارات الطرق.. ومن الأفعال الشاقة أن أُجلد بسماع هذا الجعير والتشويش طيلة الرحلة.
انطلق الباص متأخراً عن الوقت المحدد للرحلة ساعة كاملة. بعد أن اطمأنّ مستثمر الشركة الخاصة للنقل من أن عدد الركاب الملتحقين يحقق ربحاً معقولاً بعد احتساب التكاليف. قلت في نفسي: ربما هدير المحرك سوف يطغى على ضجيج المطرب وبذلك أتخلّص من حالة التوتر التي بدأت تتفاقم دقيقة بعد أخرى.
لدى قيام معاون السائق بتوزيع كؤوس البلاستيك على الركاب لشرب الماء عند الحاجة، قلت في نفسي مرة أخرى يجب اغتنام هذه الفرصة والطلب إليه إما إطفاء آلة التسجيل أو إصلاح التشويش أو على الأقلّ تغيير المطرب. اقترب المعاون وهو شاب لا يتجاوز العشرين من العمر وأعطاني كأساً فبادرته قائلاً: «لو سمحت يا أخ، إذا استمر هذا الزعيق سوف أفقد صوابي!» وأشرتُ له برأسي وبيدي إلى الأعلى باتجاه «البافلات». نظر باتجاه ما رميتُ إليه وابتسم قائلاً: «وماذا بوسعي أن أفعل؟ إنها بحاجة إلى إصلاح.» قلت له: «يا حبّذا لو أنك تغيّر المطرب أو تخفّض الصوت على الأقلّ.» وعد بتلبية الطلب وتابع توزيعه الكؤوس..
شعرتُ بأنني أحرزتُ شيئاً من النصر، فقد أفرغتُ ما بداخلي من غضب على أمل الاحتفال بعد قليل بتوجيه الضربة القاضية على رأس هذا المطرب وأرتاح من عريره. أنهى المعاون مهمته وعاد إلى مقعده في مقدمة الباص.
لحظات وتنطلق أغنية لمطربة مجهولة؛ تارةً تزعق وتارةً تفحّ وتارةً أخرى تتغنّج بدلالٍ مبتذل وبكلمات غير مفهومة، مع موسيقى صاخبة حيناً وهادئة حيناً آخر. وكل جملة موسيقية في أغنيتها مقتبسة من لحن. باختصار خليط عجيب من الأضداد المتنافرة لا رابط بينها.
بعد دقائق من السماع الإجباري وقفتُ بمقعدي وبدأت ألوّح بيدي في الهواء. لمحني السائق من خلال المرآة المثبّتة أمامه والتفت إلى معاونه يخبره بأن ثمة راكب لديه مشكلة. هرع صوبي المعاون مستفسراً فقلت له بنبرة معاتبة: «رجاءً، طلبتُ منك تغيير المطرب و..» قاطعني مبتسماً: «وها نحن قد استجبنا لطلبك ووضعنا لك أحلى مطربة». قلت له باشمئزاز: «ومن هذه المطربة؟ لم أسمع بصوتها إطلاقاً!» فتح عينيه على اتساعهما مدهوشاً وأجاب: «وَلَوْ أستاذ، «شاهيناز» صاحبة أغنية (لا تدغدغني، خرمانه)». قلت له بنزق: «يا أخي لست متابعاً لمسيرتها وأتمنى عليك استبدالها.» وعد خيراً وانصرف.
دقائق وتستبدل الأغنية بأخرى؛ دقّات طبل وصوت مزمار يوحيان بأن الأغنية شعبية. فجأةً يصرخ صاحب الأغنية بصوتٍ ممدودٍ جهير: «وا قرود السود.. ليش تركتيني لحالي» ترافقه مجموعة من الزغاريد النسائية وزخّات من الرصاص وكأننا في حفل استقبال جثمان شهيد لدى وصوله إلى بيت ذويه!
يا ربّي! كيف سأقضي هذا الوقت كله من العذاب إلى أن أصل مدينتي؟! لقد أصبحتُ خجلاً من تذمّري ونقّي على المعاون. لا يعقل أنني وحدي من الركاب جميعهم مرهف الحسّ، والباقون يرتعون بالبلادة؟ لماذا لم ينبس أحد منهم ببنت شفة معترضاً؟ إلى متى سأبقى حاملاً السّلّم بالعرض كما كانت تقول لي المرحومة أمّي؟ أنا واثق من أن عدداً كبيراً منهم لا يستسيغ هذا النوع من الغناء، لكنهم ساكتون خانعون. فقد اعتادوا الصمت.
سألت باستفزاز الرجلَ الذي يجلس بجانبي: «ما رأيك بهذا الغناء الهابط الرخيص؟» عدّل من جلسته وهَمْهَم متحدثاً من بين شفتيه: «بصراحة لا تعنيني هذه الأغاني ولا أنتبه إليها أصلاً. لقد اعتدتُ النوم خلال السفر.» وسرعان ما أغمض عينيه وحرّك المقعد طاوياً مسنده إلى الخلف ليستمتع بنومه.
قلت في سرّي سوف أكتب عريضة وأوقّع عليها من يرغب من الركاب، نطالب فيها بوضع حدّ لهذا الإزعاج.
مددتُ يدي إلى جيبي وسحبتُ ورقة بيضاء وكتبتُ عليها التالي:
(السيد السائق ومعاونه المحترمان: نحن ركاب البولمان نحيطكم علماً بأننا نقدّر عالياً حرصكم على راحة المسافرين، ونهيب بكم الاستماع إلينا؛ نحن لا نطلب منكم تقديم الضيافة التي بدأتم بها مسيرتكم وتخلّيتم عنها فيما بعد. ولا التقيّد بمواعيد الانطلاق، ولا ترف تشغيل الفيديو لعرض الأفلام المسلية. بل فقط لو تكرّمتم، احترموا أعصابنا التي أوشكت على الاحتراق من جرّاء الأغاني التي تلوّث أسماعنا، واستبدالها إما بالغناء الراقي الممتع، أو إطفاء آلة التسجيل. تكفينا مرارة الصبر وما نتحمّله من قهرٍ وجوعٍ وظلمٍ واستبداد. أَوَتَبخلون علينا ببعض الموسيقى التي يمكن أن تساهم بتهدئة نفوسنا؟ كلنا أمل بتلبية مطلبنا المتواضع هذا، متمنّين لكم ولنا الوصول إلى مبتغانا بالسلامة).
حملتُ الورقة واتجهتُ بحماس إلى مؤخرة البولمان وبدأت حملة التواقيع من مقعدٍ إلى آخر. لم تمرّ الورقة على راكب، بغضّ النظر عن عمره أو جنسه، إلاّ وتلقّفها باسماً راضياً ووقّع عليها مثنياً على هذه المبادرة. إلى أن وصلتُ إلى المعاون الذي بدأ بتلاوتها بصوتٍ مسموع ليتمكّن السائق من معرفة محتواها وكلاهما يبتسم. قال لي السائق متفهّماً احتجاجي: «المشكلة أن (السيديّات) كلّها التي بحوزتي تعود لمطربي الجيل الحديث. ولا تؤاخذني، حضرتك يبدو (دقّة قديمة) لا تعجبك أغاني هذه الأيام. لكنني أعدك فور وصولي سوف أبحث عن مطربي الغناء الأصيل وأضمّهم إلى مكتبتي الموسيقية. والآن سألبّي طلبك بإطفاء المسجّلة.. تكرم عينك». قبّلته من صلعته شاكراً وعدتُ نشوانَاً إلى مقعدي أدندن بأغنية قديمة: «يا فجر لمّا تطلّ، ملوّن بلون الفلّ، صَحّي عيون الناس، محبوبي قبل الكل.. محبوبي قبل الكل».