«منهجية التعليم» عند ابن خلدون
«فتجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة»
ابن خلدون
إيمان الأحمد
تأتي أهمية ابن خلدون، من خلال وقوفه في ملتقى الاتجاهات التاريخية والفلسفية والفكرية، إذ تمكن بفضل منهجيته الشمولية وموسوعيته من أن يفحص ويشرح حقبة مهمة من حقب التاريخ الإسلامي، فاستنتج قوانين ومقاييس لفحص وتمحيص الأخبار المروية عن تلك الحقبة.
كتب ابن خلدون وعالج الكثير من قضايا التاريخ والجغرافيا والاجتماع والعمران والاقتصاد. وكتب كذلك في العلوم والتعليم، فصنف العلوم إلى: علوم حكمية فلسفية، وعلوم نقلية وضعية، وأكد أن التعليم ضرورة من ضرورات العمران وأنه لا يحصل إلا بحصول ملكة التعلم.
وقد حظيت الموضوعات الفكرية والتاريخية والسياسية والاجتماعية بقسط وافر من التحليل والدراسة من الباحثين والدارسين لكن موضوع التعليم عنده لم ينل الاهتمام نفسه، بالرغم من أهمية الأفكار الواردة في «المقدمة».
«التعليم.. صنعة»!
خصص ابن خلدون مجموعة من الفصول (أكثر من ثمانية) في مقدمته للتطرق لموضوع التعليم. منها: «في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب»، و «في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري»، و «في أن التعليم من جملة الصنائع».. الخ
والملاحظ أن ابن خلدون أجل الكلام عن التعليم إلى الكتاب الثالث من«المقدمة» وتحديداً إلى الفصل السادس، حيث نجد التعليم مصنفاً مع العلوم رغم كونه «صنعة من الصنائع»، تكمن براعة ابن خلدون في كونه فطن لتلك الجدلية بين العلم والتعليم؛ وربط التعليم بالعلوم، فالفكر يبحث عن معرفة وتحصيل ما ليس لديه بالطبيعة، لذلك يلجأ إلى من يعرف، فيأخذ عنه ما يعرفه، فيحصل له العلم بالشيء. ولها ثلاثة مراحل: (مرحلة التعلم والتحصيل، مرحلة حيازة علم مخصوص، مرحلة تعليمه للجيل الجديد) و تتكرر هذه المراحل عبر الأجيال.
يرتبط هذا النوع من التحليل عند ابن خلدون، بنظرية الأدوار في تحليل وتفسير الظواهر التاريخية. فالتاريخ العام ينتقل من البداوة إلى الحضارة، والدولة تنتقل من الشباب إلى الانحطاط، والسلطة تتطور من الملك الطبيعي إلى الخلافة مروراً بالحكم العقلي، والفكر يتطور من التعلم إلى التعليم.
يرى ابن خلدون أن «تعليم العلم صناعة اختلفت الاصطلاحات فيه، فلكل إمام من أئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها»، وتعددت الاصطلاحات وكان العلم واحد. وعليه فالتعليم صنعة، حيث تختلف طرق الصنع في الصنعات (التقليدية) ويبقى المصنوع واحداً.
التعليم المفيد
انتقد ابن خلدون أولاً التعليم القائم على كثرة التآليف، وانتقد ثانياً نقيضه القائم على الاختصارات، ثم انتقد ثالثاً ممارسة الشدة على المتعلمين. يطرح التعليم المفيد بوصفه بديلاً تعليمياً متخلصاً من العناصر التي انتقدها. وهو ينبني على مبادئ منها (التدرج، والتكرار، وتجنب الإغراق في العلوم «الأداتية» والتوسع في المعرفة).
فالعلم يجب أن يلقى شيئاً فشيئاً، وتتم فيه مراعاة إلقاء مسائل ذات صبغة عامة ومجملة من كل باب تكون هي الأصول، مع أخذ المستوى العقلي للمتعلم بعين الاعتبار ومراعاة استعداداته لقبول ذلك العلم. والهدف من هذا الإلقاء الأولي هو تحصيل المتعلم لملكة جزئية وضعيفة تساعده على ولوج العلم أو الفن المدروس وتحصيل مسائله. ومساعدة المتعلم بوساطة التقريب والإجمال والأمثلة الحسية.
أما في التكرار، يرجع المعلم بالمتعلم إلى تلك المسائل التي سبقت دراستها فيرفع مستوى التعليم إلى «أعلى» ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر ما هنالك من الخلاف ووجهه، ويعمل المعلم على أن «لا يترك عويصاً ولا مهماً ولا مغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته».
لم يفت ابن خلدون أن ينبه إلى أن تحصيل ملكة قوية ليست بالضرورة مرتبطة بهذا الترتيب (التسلسل) بل يمكن تحصيل تلك الملكة دونما حاجة إلى هذه المراحل.
ويرى في هذا السياق، أن العلوم الآلية لا ينبغي التوسع فيها وفي تدريسها؛ لأن «المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها» ويتساءل مستنكراً: «فإذا قضوا(المتعلمون) العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد؟». فالسبب وراء هذا الموقف هو ضخامة الكتلة المعرفية لهذه للعلوم الأداتية رغم كونها طريقاً إلى علوم هي المقصودة بالذات.
الكتابة والحساب
ركز ابن خلدون على تعليم هاتين «الصنعتين». فالكتابة تتضمن عملية ذهنية معقدة فيها «انتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس». أما الحساب فيقوي العقل (العمليات الذهنية الصورية أو الشكلية أو المنطقية). ويؤكد على أهمية أن يحصل المتعلم على ملكة في العلم المدروس.
مفهوم «المَلَكة»
إن الملكة أولاً فردية ومكتسبة، كما أنها جسمانية (خارجية وملاحظة) حتى ولو كانت قدرة ذهنية. يقول ابن خلدون: «والملكة كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ» والملكة متميزة عن مفهومي الفهم والوعي(تتجاوز هذين المفهومين)؛ لأن «الملكة في غير الفهم والوعي». فالفهم والوعي مشتركان بين العامي والجاهل والمبتدئ والعالم. والحال أن الملكة لا تكون سوى للعالم. «وعندما ترسخ هذه الملكة يحصل الحذق والذكاء والاستيلاء على العلوم والصنائع».
والملكات نوعين عند ابن خلدون: الملكات الأساسية التي ينبغي للمتعلم أن يحصلها من خلال تعلمه، وهي غاية التعلم وهدفه الأسمى، «وذلك أن الحذق في التعلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله». الملكات الوسيطية أو(الأداتية) التي تخدم غيرها في طريق تحصيل الملكة الأساسية وتساعده على الوصول إليها.
الفكر طبيعي في بني البشر وبه تميزوا عن سائر الحيوانات، والفكر بطبيعته تواق إلى تحصيل ومعرفة ما عند الآخرين من معارف وصنائع. هذا الشوق والاشتياق والفضول وحب الاطلاع يقود حتما إلى التعلم. ومن أراد أن يتعلم يرجع إلى من سبقه بعلم فيأخذ عنه علمه ويتعلم فتحصل له ملكة أولى يكون أقدر بها على تعلم ما بقي من ذلك العلم حتى تحصل له ملكة ذلك العلم. عندئذ يصبح صاحب علم مخصوص، فيفزع إليه أولئك الذين يرغبون أخذ العلم ليتعلموا، وهكذا ينشأ التعليم، كضرورة طبيعية وبشرية.