برج فازليان رحيل الساحر المسرحي
«لديّ أمل كبير في عودة المسرح الحقيقي، فاليوم الجمهور يصفق للفوضى والصراخ، لأنه لم يشاهد أعمالا فنية في مستوى ما قدم في زمن الرحبانة، باستثناء أعمال قليلة جداً».
• برج فازليان.. عن «المدى»
رحل المخرج والممثل المسرحي اللبناني برج فازليان (1926 ـــ 2016) بعد مسيرة حافلة بعطاء غزير بدأها منذ الخمسينات، قدّم فيها أكثر من 160 عملاً مسرحياً، رسخّته أحد الأعمدة الثابتة في تاريخ المسرح اللبناني. أخرج مسرحيات عديدة قام ببطولتها كل من فيروز وصباح وشوشو وريمون جبارة ونبيه أبو الحسن وآخرين.
ولد فازليان في اسطنبول عام 1926 درس الرسم صغيراً ثمّ مال إلى المسرح، ليدرس لمدّة سنتين على يد كارل فيبر -الذي كان مديراً لأوبرا برلين وهاجر هرباً من النازية- في الأكاديمية المسرحية. ومثّل أول مرّة في مسرحية يوليوس قيصر سنة 1945. كان إنساناً ساخراً مرحاً محباً للحياة، أسّس بين عامي 1958 - 1959مسرح بابازيان وكان مسرحاً باللغة الأرمينة. وتعرف إلى منير أبو دبس، وأنطوان ملتقى وجلال خوري. في عام 1963، تعرّف على الأخوين رحباني وأخرج لهما مسرحية «بياع الخواتم» واستمرّ في التعاون معهما حتى العام 1975، حينما هاجر إلى كندا مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان.
أسّس في كندا فرقة مسرحية أرمنية صغيرة وقام بجولات وعروض في أنحاء أميركا كلها ثم في إنكلترا. شارك عام 1984 في فيلم «المهاجرين» ولعب فيه دور مهاجر يوناني.
التشكيل في المسرح!
كان برج فازليان يحبّ المسرح الجماهيري، ويسعد جداً بمنظر الصالة الممتلئة عن آخرها بالمشاهدين. وكان يؤكد دائماً على موقفه قائلاً: «فلنتجنب المسرحيات التي تدور في ديكور مغلق والتي يسمونها في المسرح الفرنسي مسرحيات salon fermé. فلنجعل الأحداث تدور في مكان مفتوح، فهذا يتيح للإخراج فرصة التشكيل الفني».
شارك بعدة أعمال مسرحية ناجحة في لون المسرح الكوميدي الشعبي منها مسرحية «اللعب ع الحبلين» المقتبسة عن «أرلكان خادم سيدين» لغولدوني.. وتلت ذلك مسرحية «كافيار وعدس» المقتبسة عن الإيطالية ومسرحية «جوه وبره»، ثم مسرحية «فوق وتحت» و«حبل الكذب طويل» التي اقتبستها عن «الكذاب» لغولدوني.
مدخل برج فازليان إلى المسرح اللبناني كان من باب الكوميديا أيضاً. بعد عمل مثمر في المسرح الأرمني اللبناني قدم فيه من ضمن ما قدم «البخيل» لموليير و «حكاية فاسكو» لجورج شحادة، انتقل برج فازليان إلى المسرحيات المحكية بالعامية اللبنانية. بدايته كانت مع «كوميديا الأغلاط» لشكسبير سنة 1964. بعدها بسنة أخرج «لعبة الختيار» عن «فولبوني» لبن جونسون وأخرج برج فازليان مسرحيتين من بطولة نبيه أبو الحسن وتأليف أنطوان غندور «نابوليون وأخوت شاناي» و «الشاطر حسن». وكل هذه الأعمال تنتمي إلى الكوميديا. وتجلّت موهبة فازليان في إخراج هذا اللون من المسرحيات في جعل الإيقاع حيوياً رشيقاً، في إضفاء أجواء الفانتازيا على المشهدية المسرحية، وفي تغذية العرض بالكوميديا الحركية - الإيمائية. كما تميّز بحسن إدارة الممثل.
علاقة استثنائية!
تولّى الشاعر الراحل أنسي الحاج تعريف برج فازليان الى الأخوين رحباني، بدأت علاقة شراكة مهنية وشخصية غنية امتدت طويلاً بين الطرفين.
التقى فازليان الأخوين واتفقوا على مسرحية «بياع الخواتمِ» التي عرضت عام 1964 وكان عرض المسرحية مقدمة للفيلم الذي أخرجه السينمائي المصري الراحل يوسف شاهين، وساعده فازليان في إخراجه لاحقاً. وكانت «بياع الخواتم» التي حظيت بحفاوة جماهيرية كبيرة، فاتحة تعاون طويل مع الرحابنة امتد حتى اندلاع الحرب الأهلية. وقع فازليان أشهر أعمالهما كـ«هالة والملك» (1967)، و«الشخص» (1968)، مروراً بـ«يعيش يعيش»، و«لولو» (1974)، وصولاً إلى «ميس الريم» (1975). أما في السينما فقد اشتغل برج فازليان ممثلاً في أفلام الأخوين رحباني الثلاثة «بياع الخواتم» و «سفر برلك» و «بنت الحارس». إضافة إلى فيلم «كلنا فدائيون».
لكن مساهمة برج فازليان في المسرح اللبناني لم تقتصر على ما سبق، إذ أخرج «الزنزلخت» وأخرج «الموسم»، و«الفنون جنون». و«أبو علي الأسمراني» عن نص لمؤلف تركي مستوحى من بريخت، وكان افتتاح مسرح شوشو للأطفال 1971 بمسرحية «حكايات العم شوشو» من إخراجه. ثم «الشاطر شوشو» وهو لون في الإخراج المسرحي كان برج فازليان قد أسهم فيه مساهمة متميّزة.
في آخر حوار أجرته معه مجلة «الأمن العام» السنة الماضية، توقف فازليان طويلاً عند تلك العلاقة الاستثنائية التي ربطته بعاصي الرحباني تحديداً. يقول: «عشناً معاً 16 سنة عائلة واحدة، كان عاصي في أثنائها يسارع إلى الاتصال بي ليلاً كلما أنجز عملاً، نصاً أو لحناً ليطلعني عليه ويسألني رأيه». وتطرق إلى مرحلة مرض عاصي وإصابته بنزف في الدماغ عام 1972، فقال: «مرت بعاصي ظروف أوصلته إلى الشعور بأنّه لم يعد يمتلك قوته مئة في المئة، فانغلق على نفسه وانزوى. قبل يوم من إصابته ودخوله المستشفى، كنا في المسرح، فقال لي: سأموت في العتمة. وعندما قصدته في المستشفى بعد إجراء الجراحة، قال لي منصور: أنت الوحيد الذي يستطيع دخول غرفته. ولما رآني عاصي إلى جانبه، نطق أول كلمة».