«رأس على عقب».. الحياة بين عالمين
آلان داود آلان داود

«رأس على عقب».. الحياة بين عالمين

«هناك نجمة وحيدة مميزة تجعلني أفكر بشخص مميز جداً، فنظامنا الشمسي الوحيد الذي لديه جاذبية مزدوجة، كوكبان توأمان يدوران معاً حول شمس واحدة، لكل منهما جاذبيته الخاصة والمعاكسة في عالم يمكن أن تسقط فيه إلى الأعلى أو إلى الأسفل،  الأمركله أن كل جسم يُسحب من قبل جاذبية العالم الذي جاء منه وليس الآخر، ووزن الجسم يمكنه الخروج عن الإتجاه باستخدام مادة من العالم المعاكس لمدة قصيرة».

 

هذا ما يحاول أن يقوله ويصوره فيلم « رأساً على عقب، Upside down »، يحاول الفيلم التأكيد أن الحب أقوى من الجاذبية، ويحكي قصة حبيبين يجدان طريقاً للعودة إلى بعضهما في عالم من التناقضات.

تدور أحداث الفيلم، في إطار خيالي فانتازي، حول «آدم» الذي يكافح من أجل العودة للفتاة التي أحبها طوال حياته «إيدن» بعد أن تم إبعاده عنها، لكن قوانين عالمه، فضلاً عن قوانين الجاذبية، تجعله بعيداً عنها. لذلك كان عليه المخاطرة بكل شيء للوصول إلى العالم المحرم الغارق في الثراء والموجود بالأعلى، ويواجه أخطاراً عدة وهو يكافح حتى لا تكتشفه السلطات بعد أن قام بالتلاعب في قوة الجاذبية التي تشد جسده لإعادته إلى عالمه، أملاً في  العثور على حبه المفقود منذ زمن طويل.

«ألسنة اللهب تفيض بالحياة..»

 تذكرنا قصة الفيلم بإحدى مقولات إدواردو غاليانو التي تؤكد: «كل شخص يشع بضوئه الخاص، وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح. بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحترق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بالحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك». رغم روعة الفكرة وصدقها عند غاليانو، إلا أن الحقيقة تؤكد أن هناك واقعاً أسود ذو تناقضات لا يمكن للكلمات تجاوزها.

عالمان.. في «عالم»!

عالمان متناقضان، الاتصال بينهما «خطير جداً ومحرم بالكامل» حسب الفيلم، حيث ينمو الثراء والغنى الفاحش في الأعلى،  بينما يزدهر الفقر والاستغلال في الأسفل، الذي يخاطر سكانه بحياتهم من أجل الحصول على وسائل التدفئة والحياة، وحيث تراكمت القمامة وانعدمت الخدمات البلدية، ويعيش السكان في بيوتهم المتواضعة، يتابعون العمل الأسود الذي تتيحه المنظومة المسيطرة عليهم. وعندما يظهر إبداع ما أو اختراع في العالم الأسفل، كان العالم الأعلى يستولي عليه دون مقابل تقريباً، مما أجج حقد الناس على من هم في الأعلى. فمثلاً «يقوم العالم الأعلى بشراء النفط الرخيص من الأسفل ويبيعه مجدداً إليه بأسعار باهضة، لا يمكن لأحد تحمل ثمنه، مقابل  الكهرباء!». وحيث الاتصال الوحيد المصرح به بين العالمين يجري من خلال «العالم الناقل»، وسيلة الاتصال الوحيدة، وهو أشبه بمؤسسة اقتصادية ضخمة، تحت سلطة مشددة لمنع أي اتصال غير مصرح به بين الأسفل والأعلى.

وعندما حل الدمار مرة نتيجة حريق عظيم في الأسفل، بسبب انفجار مصفاة نفط وقضى فيه الكثيرون، وتضررت عوائل كثيرة، مما «شكّل دافعاً أقوى لكره العالم الأعلى المسبب للبؤس والشقاء». 

خيال.. وبصمة «واقع»!

في الحقيقة، ثمة عالمان في عالم واحد، ولا أحد يستطيع تجاوز ذلك، عالم يمتلئ بالتناقض، بين الظالم والمظلوم، الناهب والمنهوب، عالمان، حيث الأول ينهب ثروات الثاني ومن ثم يبيعه هذه الثروات، وهذا يجري على الصعيد الكوني، ويمكن ملاحظة هذا التناقض في صورة مصغرة، حيث يتجاور عالمان في كل بلد ومدينة، فتتجاور «الأحياء الراقية الغنية» جنباً إلى جنب مع أحياء البؤس والفقر، أحياناً لا يفصل بينها سوى جدار! ولكل عالم منهما منظومته الاجتماعية والفكرية والأخلاقية.

أما العالم الناقل الذي يصوره الفيلم فهو أشبه بتلك الشركات العابرة للقوميات التي تستبد بالعالم كله وتسلب ثرواته وقواه البشرية عبر التبادل اللا متكافئ لتبقي على سيطرتها على العالم الآخر، العالم السفلي.

غالباً ما يكون الحب محرماً على الأفراد بين طبقتين في هذا العالم، ، إذ تؤكد بعض الدراسات، على سبيل المثال، أن هناك أجهزة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، مهمتها السهر على نقاء الأخلاق البرجوازية، وتمنع تسرب أشخاص من الطبقة السفلى بكل الوسائل!

الحب.. لا يكفي!

في فيلم «رأس على عقب» يجري التأكيد على  فكرة طالما روجت في السينما، وهي أن الحب قادر على تذليل التناقضات، يبدو هذا الكلام جميلاً، ولكنه ليس واقعياً، فالتناقضات تفعل فعلها في كل شيء، وهي ابنة واقع اقتصادي اجتماعي يسببها، ليكون المطلوب هو تغيير الواقع الذي يولد هذه التناقضات حتى يكون الإنسان قادراً على الحب والعطاء وهكذا فقط يمكن أن ينقلب العالم رأساً على عقب. وليس من خلال توجيه الناس لحل التناقضات عبر الحب ونشر رومنسية خيالية لا يمكنها إنجاز المطلوب في التغيير، خاصة بعد أن أصبحنا نعيش في زمن  تنفجر فيه التناقضات كلها، وتصبح بادية للعيان وواضحة وضوح الشمس، والأهم من ذلك تتاح اليوم فرصة قل نظيرها للانتقال إلى واقع جديد.