بين قوسين: هذي دمشق
كان على سائق التاكسي أن يتوقف عند مدخل الحارة لصعوبة عبوره الأزقة الضيّقة في حي الأمين. الحي الذي تحوّلت معظم بيوته المهجورة إلى مشاغل للرسّامين.
ندخل متاهة المكان، كأننا في فضاء مديني آخر. بيوت متهالكة، وأخرى تمّ ترميمها كمطاعم وفنادق وغاليريهات. لا نعلم الأسباب الجوهرية لهذه الفوضى العمرانية، ولماذا يحصل بعضهم على رخصة ترميم، فيما تمنع عن آخرين. الأمر ذاته نجده في حي ساروجة. مقاه تحتل الشارع الرئيسي دون رخصة. وحي بكامله يخضع لقانون استملاك مضى على صدوره نصف قرن، دون أن نرى كوة ضوء في تحديث هذه المنطقة. قوانين تشبه بيت العنكبوت، جعلت من دمشق القديمة، سواء تلك التي تقع داخل السور أم خارجه، بضاعة للمساومة والصفقات. شخصياً لا أجد أية نفحة جمالية أو تاريخية في بيت آيل للسقوط، تتنزه في ردهاته الجرذان. بيوت مبنية من الطين والخشب، لم تعد تحتمل المقاومة أو القدرة على العيش، فيما تقبع المخططات التنظيمية في الأدراج. بعيداً عن البلاغة الجوفاء ومواضيع الإنشاء المدرسية عن دمشق ونارنجها وياسمينها وبحراتها، فإنني أكتشف كل يوم القبح العمراني الذي يطال أقدم مدينة مأهولة في العالم.
ارتجالات وفساد جعل من هذه المدينة ومحيطها أكبر مركز للعشوائيات. شوارع قذرة ومداخن مطاعم في وسط الأحياء السكنية. عمارة على الطراز الغربي تجاور عمارة شرقية. شبابيك زرقاء وأخرى حمراء في البناية الواحدة، كأن الصفقات السريّة في السماح والمنع هي من يرسم مصير هذه المدينة. حداثة مستوردة، وتقاليد فولكلورية مدفوعة الثمن. واجهات نيون قبيحة، تصدّر بآن واحد وبخطٍ واحد واجهة مطعم للفلافل، ومدرسة عريقة عمرها أكثر من قرن.
تحتاج دمشق إلى ورشة إنقاذ جمالية يشارك فيها خبراء عمارة وتشكيليون كي تحافظ على الحد الأدنى من التناغم العمراني في مخططات البناء. كأنها مدينة تفقد روحها على مراحل تحت وطأة الفساد في المقام الأول، وإفساد الذائقة ثانياً. تغنّى أحمد شوقي بنهر بردى في قصيدته الشهيرة، فرددنا عليه بأن حوّلنا النهر بفروعه السبعة إلى مستنقع!