سفيتا الذياب سفيتا الذياب

رواية «مديح الكراهية».. مديح للإنسان المتمسك بإنسانيته

لم يأت عنوان رواية «مديح الكراهية» للكاتب السوري خالد خليفة من العبث، بل جاء ليختزل حياة أجيال بأكملها عنوانها الخوف والقلق والتوجس من الحاضر والمستقبل.. إنه مقطوعة شعرية قلقة على شكل فكرة، تمظهرت بثوب أدبي فيه من الوصف والاستعارات والأناقة اللغوية الكثير، وفيه من الانغماس بالواقع ما هو أكثر وأعمق، استطاع من خلالها الكاتب أن يدون سيرة حياة أناس عاديين، جعل منهم أبطالاً ومخلدين، أبطالاً لا تستطيع مدحهم ولا كرههم، بل كل ما أنت قادر عليه هو قراءتهم بتجرد كتجربة وكتاريخ غير بعيد.

يسرد الكاتب الرواية كبوح خاص لفتاة انتقلت للدراسة والعيش في منزل جدها الواقع قرب الجامع الأموي في مدينة حلب، حيث تنمو وتترعرع في بيئة محافظة. لينطلق الكاتب برسم شخصياته بدءاً من الشخصيات النسائية المحيطة بالفتاة ونظرتها وتفاعلها مع أفكارهن وانفعالاتهن  و تقاليدهن وتجاربهن وتناقضاتهن، وصولاً إلى الرجال الذين لم يظهروا متأخرين في الأحداث إلا ليكونوا فاعلين أساسيين في سيرورتها، وهنا تأتي  أولى جماليات هذه الرواية، من خطورة بوح النساء في شرقنا، وتظهر بالوقت نفسه  قدرة الكاتب على التفكير بمنطق منفرد وجريء، متلبساً لشخصية نسائية تنتمي لأسرة مشرقية تقليدية، ذات انتماء سياسي إشكالي، وتقاليد وعادات كأية أسرة سورية أخرى، أو عربية، تغيب شخصياتها وتظهر مرة أخرى، لتكشف تفاصيل وغرائب خاصة بتكوين كل منها، ليرصد لنا إمكاناتها وبنيتها وتطلعاتها وأفكارها على مدى زمني طويل، وكأن كل شخصية هي شخصية رئيسية، ومجمل هذه الشخصيات هي الحدث الرئيسي، ومجمل البيئات التي يصفها هي بيئة الرواية، وهي بيئة غنية وواسعة لا تقتصر على البيئة الحلبية فقط، وإنما تدخل بخفايا وقصص وتراث أكثر بلدان من خلال عائلة واحدة.

يركز الكاتب على بيئتين اجتماعيتين على الرغم من أن سورية خليط متمازج ومعقد من البيئات الاجتماعية الأخرى، لكن مجريات الأحداث تلزمه بذلك، حيث تنخرط هذه الفتاة وهي في عمر المراهقة في العمل السياسي لمصلحة  إحدى  التنظيمات الأصولية. وجودها ضمن عائلة أصولية، جعل الحقد والكراهية غير المبرر لطائفة أخرى ينمو ويكبر بداخلها بالتدريج، ممثلة بذلك لعدد كبير من الشباب الذين انخرطوا بالعمل السياسي دون تحليل للواقع واستقراء للمستقبل، فعاشوا تجربة غيرهم، أو بالأحرى اندفعوا ليحققوا ما يريده غيرهم، وتحديداً محاولة قلب النظام واستلام السلطة، رغم أن المضمون السياسي لتلك الأحزاب لا يتفق مع بنية المجتمع السوري الذي يمتاز بتعدديته سواء كانت الطائفية منها أو الحزبية.. تشهد بطلتنا هذا الصراع بكل ما فيه من عنف وقتل.. يموت بعض أفراد أسرتها، أما هي فتقضي سبع سنوات في السجن، لتبدأ حياة أكثر عنفاً وضراوة تصارع فيها الوحدة والمرض والتعذيب مما جعلها تعيد التفكير بمنظومة أفكارها وفاقدة لمعنى أو أي جمالية لحياتها.   نقل الكاتب هذه الصورة بأمانة خالصة، ليعرض التاريخ النفسي لشخصية إنسان متلق ، منفعل وليس فاعلاً، متأثر وليس مؤثراً، لدرجة أن غالبية شخصيات الرواية ينتهي بها الأمر إما بالموت أو محاولة للهروب ونسيان الذات بطريقة أو بأخرى، منهم من يهاجر، ومنهم من يعيش بانتظار الموت السريري البطيء.

تظهر النزعة الإنسانية للكاتب في كل صفحة من صفحات الرواية، فبقدر ما يضيء على قبح وبشاعة الأحداث الدموية، بقدر ما يظهر جمالية العلاقات الإنسانية. ففي وسط هذا الدمار ينشأ الحب بين إحدى الخالات التي ذاقت مرارة الكراهية من زواجها الأول وعرفت معنى التسامح، وبين أحد الضباط الذي استقى القيم من تربيته على يد أبيه أحد الشيوخ من الطائفة الأخرى، فيتزوجها مضحياً بمراتبه ومناصبه. ونستطيع القول بأن هذين الزوجين هما الناجيان الوحيدان من مرارة الكراهية التي يحملها الصراع الطائفي العنيف. يعرض الكاتب هذا التاريخ غير البعيد من خلال عرضه للشخصيات واحدة تلو الأخرى، ليتابع تطور الحدث من خلال التطور النفسي والفكري لكل شخصية..

تأتي أهمية قراءة الرواية في هذه الفترة العصيبة التي تعيشها البلاد، كونها تصور معنى الغرق في رفض الآخر ونبذه والتناحر معه، وكونها تحمل في طياتها أيضاً المعنى العظيم للخروج من نسق التعصب الأعمى، الذي لن يثمر إلا الحب والطمأنينة والتعايش الإنساني المبني على احترام الآخر بغض النظر عن طائفته..