أموت أو لا أموت

«أموت أو لا أموت؟» سؤال شكسبيري حاصر الممثل في نهاية المسرحية، ليتركه حائراً بين البقاء في بلاد هجرها الموت، بلاد الأبدية، وبين عودته لبلاد الموت، بلاد الفناء.

حكاية داخل الحكاية، منام داخل المنام، وفتاة تقص المنامات كالحكايات من المرأة الهاربة من أليس في بلاد العجائب. تخبرنا قصة الموت الأخيرة أو قصة «البلاد اللي ما فيها موت»، عنوان المسرحية السورية، إخراج كفاح الخوص، التي عرضت في مسرح القباني.
شاهدتها مرتين، كنت في الأولى بعيدةً عن خشبة المسرح، في الصفوف العليا، ورغم ذلك تأثرت ببعض مشاهدها ودمعت عيني في أحدها ولمست أيضاً نقاط ضعفها، لكنني لم ألحظ أي خطأ من الممثلين على الإطلاق.
في المرة الثانية اختلف الوضع تماماً، جلست قريبة جداً، في الصف الثاني والرؤية واضحة جداً فظننت أنني سأكون أقرب إلى أحاسيسهم وتعابير وجوههم ونظرات أعينهم. لكنه كان العرض الأسوأ منذ أن ابتدأ شبه المثقف الجالس بين الجمهور بتعليقات  أوقفت بطل المسرحية عن تمثيله لشدة إزعاجها، شبه السكران، أو شبه الضائع أو شبه الحيً قد زار مؤكداً «البلاد اللي ما فيها موت» وعاد خائباً مجنوناً كما بطل المسرحية. لكن كفاح شاب ذكي، فما كان منه إلا أن طلب منه أن يشاركه المسرح ويصعد ويقدم المسرحية عنه. ليته لم يصعد لأنه زاد الجو توتراً على الممثلين وأضاع رونق المسرحية.
المسرحية مسرحية رمزية، ورأيت فيها المنحى السياسي واضحاً وصريحاً، لكنه غير مباشر وغير مكثف. لم يصرخ هذا الجانب صرخة قوية جريئة تشفي الغليل وتشبع الضمير. كان الصراع بين الموت كفكرة وجودية والسعي وراء الخلود والأبدية من جهة وفكرة البلاد التي تعاني من الموت جراء الحروب وجراء فيل الملك الذي يهدم المحاصيل ويدوس على الأطفال من جهة أخرى.
كان من الأجمل لو اعتمدت طريقاً واحداً في الفكرة والتقديم لأن الجمل الغنائية المتكررة التي تمر كل برهة بين كلام الممثلين تشتت الأفكار أحياناً. رغم ذلك فإن الفقرة الغنائية الكاملة في نهاية المسرحية كانت المشهد الأجمل على الإطلاق، لفكاهتها ولاستحضارها الثقافة الغنائية السورية بكافة طبقاتها من «صباح فخري» إلى «أبو جانتي» إلى نغمات الأعراس التي نغنيها في القرى السورية، كلماتها الجديدة كانت محكمة الترتيب ومتقنة الأداء وملامسة لأرواحنا التي باتت تعبة في هذه الأوضاع.
أهي كوميديا سوداء تنقل الواقع؟ أم حالة أدبية تتماشى مع رحالة يبحث عن الأبدية؟ وتعددت الآراء حولي. منهم من أعجب جداً بالتلاعب بالكلمات و السرد الشعري والقوافي ومنهم من وجدها مسرحية دون العادية في التقنيات والإخراج. من المؤكد أن لا عمل فنياً يرضي الجميع وأن الأمر نسبي يعتمد على العمر والذوق والناقد الذي يعيش في ذاتنا. لكنني حقاً أجد أنه من الأمر المتفائل وجود أعمال مسرحية في الأساس. ووجود من يحاول في هكذا أوضاع وهكذا إمكانيات.
«إذا بدك تروح، روح، بس إنك تهرب من الموت، مو مسموح». تكررت هذه الجملة ثلاث مرات، تكررت عند كل رجل عجوز يقابله. لعل المخرج يرغب بالتشديد على هذه الفكرة ولكنني أرى أنه شدد أكثر من اللزوم. أصبحنا في زمن لا يحتاج كثرة التكرار، بتنا نرى الأمور بالأشعة تحت الحمراء وما فوق البنفسجية من النظرة الأولى. أرى أننا الآن نسعى وراء زمن الرمزية لأننا بتنا لا نحب الصراحة أو أننا بتنا نخشاها.
 
الموت موت، لا مفر ولا مهرب منه، كما نرى في شعر الإمام علي بن أبي طالب:

لا دار للمرء بعد الموت يسكــــنها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنـــا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فكم مدائن في الآفاق قد بنيت            
أمست خرابا وأفنى الموت أهليها