من الصف.. انصرف
لا أدري حقاً إن تراجعت الحكومة عن تنفيذ خطتها التعليمية بالانتقال إلى التعليم الخاص، وهي التي كانت تعد العدة بالتحول إليه بنسبة 37% في خطتها الخمسية العاشرة، وقدمت عبر مجموعة قرارات أبدعتها في غرف الانتقال زمن العطري، وأكد عليها في كثير من التصريحات قائد التحولات الاقتصادية الكبرى في حكومته عبد الله الدردري الذي برر بدماثته وجمال طلته كل خطوات الحكومة المنصرمة لحذف الفقراء ليس فقط من التعليم.
الحكومة المنصرمة أوقفت بحجج واهية أكثر من 1000 معهد خاص لأنها حريصة على التعليم في سورية، وهذه المعاهد التي تضررت أنشئت من قبل مغتربين أرادوا أن يعيدوا أموال اغترابهم إلى وطنهم، وأساتذة أفنوا عمرهم في سلك الوقوف على حافة اللوح الأخضر، وهذا ليس مبرراً لتجاوزات أصحاب المعاهد، وانتهازية نسبة ليس بالقليلة منهم، وتعاون بعض من في سلطة التعليم مع هؤلاء، ولكنه استذكار لأخطاء القرارات التي صدرت لمصلحة قلة منتفخة.
كان التفكير الحكومي حينها منحصراً بالتحول إلى التعليم الخاص لكافة المراحل، وإقصاء مدرسة الدولة، وسحب الدعم الأخير عن حقائب أبنائنا، وحينها لا يهم كيف سيعلم السوريون الفقراء (الأغلبية) أبناءهم، ولا يكترث أصحاب القرارات كيف سيؤمن السوري تعليم طفلين وهو الذي يرتبك بثمن الأقلام والدفاتر، ويدور في كل أسواق العشوائيات باحثاً عن قرطاسية الفقراء.
ثم خطت الحكومة خطوتها الكبيرة بهذا الانتقال عبر المنهاج الجديد الذي جربته في مدارس نموذجية لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، ومن ثم عممته على مدارس القطر لأنه المنهاج الأمثل المتطور، والخطوة المثلى لنقل أبنائنا إلى التعليم المستقبلي، وبدأت حكايات تثار حول مصدر المنهاج، والمطابع التي أنجزته، والأخطاء الفادحة التي كان سببها السرعة في وضعه، والارتجالية في رميه بأحضان الطلبة، والمعلمين.
أرادت الوزارة أن تمسك بالدفة من جديد، فعقدت دورات للأساتذة على عجل ولمدة أربعة أيام، وفي غالبيتهم خرجوا بقول واحد: لم نفهم شيئاً، ومن أجل نقلهم إلى عالم الحاسوب قامت الوزارة بعقد صفقة حواسيب شخصية مع مصارف حكومية لتقديم قروض للأساتذة، ومن أجل أن يستطيع المعلم الجديد قيادة صفه من لوحة مفاتيح الجهاز.
ولكن على أرض الواقع، وفي الصف وأمام الطلبة المبهورين بمنهاج واسع، ويتطلب بنية تحتية، وقاعات دراسية بوسائل شرح مختلفة لا صفوف يُحشر فيها خمسون طالباً.. كانت الهوة بين أحلام الوزارة وواقع تعليمي يحتاج إلى ترميم ليس للأبنية فقط، ولكن للكادر البشري الذي يحتاج تأهيلاً على مستوى المنهاج الجديد بالرغم من مطباته.
المعاناة خرجت من المدرسة، واتسعت المشكلة لتصبح اجتماعية، والأهالي امتعضوا وعبروا عن استيائهم من منهاج لا يمكن للأسرة أن تكون شريكة به إلا من خلال الكم الكبير من المدفوعات الجديدة التي أضيفت على كاهلها.
هذا المناخ فتح الباب لعودة المتضررين من قانون إلغاء المعاهد الخاصة إلى الواجهة، وجيش الأساتذة الذي ينتظر الفرصة المناسبة لجمع المزيد من المال وصلته اللقمة سائغة وبدون جهد، وبدأت رحلة البحث عن أساتذة يستطيعون أن يقدموا هذه الوجبة الدسمة لجسم رقيق.
في جانب آخر بدأت النداءات والصيحات تعلو بإعادة المنهاج القديم إلى المدارس، وضرورة الانتقال الهادئ إلى نمط تعليمي جديد، ومنح الأساتذة فرصة لتلقي الخبرات، وإقامة دورات أطول زمناً، وبخبرات حقيقية.. ولكن حلقة النقاش توقفت في مرحلة حساسة من تاريخ الوطن، ولكن هذا يستدعي عدم غض الطرف عما يلحق بالجسد التعليمي في سورية.
مدرسة الحكومة كانت ضمانة أبناء الفقراء، وأما اليوم فيذهب الطلبة إلى امتحاناتهم على موعد مسائي مع الأستاذ الخاص.. وأمل بجامعة خاصة فيما بعد.