ثنائية التراث والحداثة...
كفاح سعيد كفاح سعيد

ثنائية التراث والحداثة...

هل صحيح أن نموذج«الخليفة البغدادي» هو الذي يعبر عن تراثنا، وهل كان أسلافنا حقاً قطاع طرق، وقاطعي رقاب، وهل ما نشهده من انحطاط هو امتداد لثقافتنا العصية على الانفتاح، أسئلة تطرح على بساط البحث في خضم تفشي ظاهرة التطرف الديني، وإذا كان الأمر كذلك، هل سنبقى ضمن دائرة الدم المغلقة..؟  وماذا عن البوصلة التي يقدمها لنا  الأغيار الثلاثة، في تحديد الجهة التي يجب أن نمضي إليها «الحداثة»؟

في المصطلح!

يعتبر التعميم أحد أكبر إشكاليات الخطاب الثقافي العربي - الإسلامي، فاستناداً إليه، وعملاً به، تم ضخ الكثير من المصطلحات والمفاهيم والتعابير، التي تنطوي على قدر كبير من التشويه والتزييف، تساهم في إنتاج وعي مشوه، بالعديد من مجالات البحث، وتحدث إرباكاً وتشويشاً في وعي الذات، ونظرة الآخر إلى هذه الذات، وبالأخص في تلك الدراسات والقراءات المتعلقة بقضايا التاريخ عموماً، والتراث الثقافي منه على وجه التحديد.

من جملة التعميمات هذه، كان النظر إلى التراث على أنه كلٌّ واحد، دون التفريق، بين المنتج التاريخي الثقافي القيمي للعامة، وبين ما قام به الملوك، وسواهم من أصحاب الجاه والسلطان، أوالذين «اكتنزوا الذهب والفضة»، والمال الحرام..، ودون التفريق بين الإنسان العادي من كونه محكوماً، وبين الحاكم والسلطة في هذه المرحلة التاريخية أو تلك من حيث كونها أداة قمع وسيطرة وتوحش وسادية، في خدمة «بيت المال» وتطبع المجتمع بطابعها بما تمتلك من أدوات سيطرة، وبين العامة المستهلكين لثقافة الحاكم بحكم الأمر الواقع.. بمعنى آخر إن القراءات التعميمية للتراث العربي الإسلامي، «الشرقي» قدمت لنا فقط تلك الصفحات المظلمة في التاريخ، التي فرضت على العامة من خلال منظومة السيطرة الطبقية، المعروفة، بحديها: «الكهان والعسس»، وتحديداً ثقافة الصراع على الثروة، والصراع على السلطة، التي حولت بعض منعطفات التاريخ  فعلاً إلى ما يشبه المسلخ، وبعبارة أوضح، هذا الإرث الثقافي الذي «نُشتم» من خلاله هو ليس تاريخ السواد الأعظم من عباد الله، الذين كان لهم منظومة قيمية أخرى، غير النسق الثقافي الذي ولد على مذبح الصراع على السلطة، بل هو أحد تعبيرات الفكر الديني واجتهادات وتأويلات وتفسيرات وعاظ السلاطين، من خلال خطاب ذرائعي تبريري، مداهن، منافق، يتمترس خلف المقدس الديني، ذو التأثير الهائل في وعي الناس. 

ما بعد التعميم 

هذا التعميم في قراءة التراث، هذه القراءة الأحادية له، التي وصلت إلينا عبر إبداعات كهنة الحكام عبر التاريخ، ويتم الترويج لها، أصبحت مقدمة لما هو أشد إيلاماً، حيث وضعنا الكهنة الجدد، كهنة الحداثة الغربية، أمام ثنائية جديدة: فإما التراث بالصيغة التي قدموها لنا، وجلد الذات وخطاب بكائي، دوني، مازوشي، أو اللهاث خلف نموذج الحداثة الغربية.

وكما جرت محاولة فرض ثنائيات وهمية على الوعي الاجتماعي: في السياسة «الاستبداد أوالاحتلال» وفي الاقتصاد: «الفساد أواللبرلة» جرت محاولة فرض مثل هذه الثنائية في الحقل الثقافي أيضاً، فإما تبني هذا النموذج من التراث الذي ينضح بالدم، والانتماء له، أو الحداثة الغربية، والسعي إلى تمثلها، وكأن قطار المعرفة توقف على أبواب «الخليفة»، أو على أبواب «البلاك ووتر».. هل من فرق بين الرايتين؟

التراث المغيّب

كما أن داخل كل أمة أمتان، أمة الأغنياء وأمة الفقراء، في تراث كل  شعب جانبين: تراث العامة، وتراث السلاطين، وتزخر كتب التراث بأحداث أخرى، وبوقائع مختلفة عن هذه الصيغة النمطية المشوهة للتراث، حديثاً، وعبادةً، وشعراً، وحكاية، وعاداتً، ومنظومة قيم، وحتى حرباً تختلف في أهدافها وأدواتها ومسعاها، عن تلك البقع المعتمه في التاريخ، والتي يحاول من يحاول جعلها ممراً وحيداً للدخول إلى الحاضر، والظل الوحيد لماضينا، والبناء عليه...

تعالوا نتقاسم التاريخ، لكم ما صنعتموه، ولنا ما صنعنا، وكفى الله المؤمنين شر القتال.