مدينة للفرجة وأخرى للمتفرجين!
يقف أحمد إلى مرآته الصغيرة ويتحرك قبالتها، أماماً وخلفاً، يميناً ويساراً، لتكتمل صورته في الذهن..
اليوم سيتابع خريج الاقتصاد مسيرة البحث عن عمل. ينطلق من بيته الكائن في إحدى العشوائيات، ويتجه مباشرة إلى أحد البنوك الخاصة. يقف متأملاً.. الحارس شاب جميل وأنيق يرتدي بدلة رسمية نظيفة. يفكر: إذا كان الحارس يرتدي بدلة فكيف سيقبلون بموظف دون بدلة، ينبغي شراء بدلة.
عماد، الذي ملّ أفلام MBC2 وما شاكلها، قرر حضور مسرحية في دار الأوبرا، على الباب لم يسمح له بالدخول لأنّه لا يرتدي بدلة رسمية، ولأنه سيخل بالمنظر العام للدار ولروادها.
سناء، أنهت منذ دقائق زيارتها لصديقة تقطن في حي المالكي، ولا تزال مصدومة من هول ما رأت.. لم تر كثيراً ولكنّ ما رأته في زيارتها أكثر مما يمكن احتماله في غضون يوم واحد. قررت دخول أحد المولات الضخمة، فحق الفرجة هو أهم الحقوق التي «يناضل» من أجلها أصحاب البدلات الرسمية. تشبع عينيها من الألوان المرتبة والمصفوفة بعناية على مساحات كبيرة، وتخرج بقنينة ماء وبغصة.
أمام تلفزيون ليبرالي بنكهة التشبيح، تقضي أم رامي صباحاتها. المذيعه «ممعوطة معط» على حد توصيفها، والمقصود أن مكياجها كثيف بشكل مبالغ به، ولكنها تضيف: «بس حلوة». تتالى الفقرات الصباحية بين الرياضة والمكياج والأبراج والصحة والإتيكيت وكل ما يهم سيدات المنازل الكبيرة، وأم رامي ذات المنزل الصغير لها أحلام تمتد واسعة وراء حدود منزلها، ويتكأ ذهنها على التلفاز ليبني أحلام يقظته.
في باب شرقي، يسوح خالد، ذو الثمانية عشرة، بكل ما للكلمة من معنى، فهو حين يقرر زيارة باب شرقي، يرتدي ملابس لا يجرؤ على ارتدائها في حيّه، و»يجلجل» شعره «سبايكي»، ويغير مشيته، وينغمس في جو باريسي بنكهة دمشق القديمة.
بالنسبة لهؤلاء، ولأمثالهم الذين يشكلون أغلبية سكان المدينة، في المدينة الواحدة توجد مدينتان: مدينة للفرجة ومدينة للعيش، مدينة الفرجة ملونة ونظيفة، ومدينة العيش باهتة متسخة. مدينة يحلمون بها، ومدينة تربي الأحلام.
هما مدينتان والحق أنهما مدينة واحدة
مدينة الفرجة لا قيمة لها دون متفرجين، ومدينة المتفرجين لا قيمة لها دون فرجة، والفرجة في اللغة مشتقة من الفرج، ولكنها أصغر منه، بكثير، والفرج ضد الكرب.. بكلام آخر فالفرجة تتمة الكربة، والفرج تتمة الكرب. إذاً، فليس اعتباطاً، ولا مصادفة، أن تتسع الفرجة كلّما اتسع الكرب، أو أن يتسع الكرب كلّما اتسعت الفرجة!
ما يدعو إلى السخرية ضمن حفل الفرجة الصاخب الذي نعيشه، أنّ أصحاب الفرجة لا يكفون عن إضافة قيم شتى إلى فرجتهم، لا تمت لها بصلة.. فمحلاتهم الملونة وبنوكهم ومولاتهم وبدلاتهم هي مقاييس الحضارة والتقدم، وأفواهنا الفاغرة من هول ما نرى وملابسنا العملية حتى الاهتراء، دليل تخلفنا وقصور مخيلتنا.
لا يهم إن كان صاحب البدلة الرسمية مسؤولاً فاسداً يعيش حياة بوهيمية ويطرب للنشاز ذاته الذي يملأ سرافيسنا، ولا يقرأ سوى دفاتر الشيكات وأرقام أرباحه، لا يهم.. فهو يلبس بدلة رسمية ويسكن بيتاً بمئات الملايين، ويصيّف في أوروبا!
بلاد الفرجة التي نعيش فيها، بلاد تستورد كل شيء، حتى القيم والأخلاق والمفاهيم والمصطلحات. لأنها ببساطة بلاد فرجة، بلاد سياحة، «بلاد الحضارات» التي يوضع وجهها في المتحف العالمي، وبقية جسدها تصهر نفطاً ومواداً أولية وعمالة رخيصة ويرّحل إلى ماكينات بعيدة تلتهمه.. هذا ما يريده أصحاب الفرجة لبلادنا، ومن ورائهم أصحاب (أصحاب الفرجة)!
الحق، الحق أقول لكم: ليست مدينتا مدينتين فقط، بل العالم كلّه مدينتان، فالأخ الذي أسلفنا ذكر تصييفه في أوروبا، ليس إلا متفرجاً على أبواب الفرجة الأوروبية والأمريكية، ومتفرج بفم كبير وعينين ذاهلتين ومدهوشتين أبداً. وفوق ذلك فهو متخلف لا عن معلميه الغربيين فحسب، بل حتى عن المتفرجين المحليين الذين يغضون الطرف المتعب عن بهارج الفرجة بين الحين والآخر، وتملأ حلوقهم الغصة، ويقرون في دواخلهم أنّه لا بد أن لهذا الهراء السطحي أن يتوقف، ولا بد للمتفرجين أن يصعدوا بمسرحيتهم الخاصة إلى الخشبة.