رصاصة في الجيب..

رصاصة في الجيب..

هدر صوت الرصاص، واستقرت الضحايا في برك الدماء، هي ليست المرة الأولى التي يحدث فيها كل هذا في أمريكا، لقد اعتاد الجميع هناك على سماع تلك الأخبار كل عدة شهور، هناك دائماً مختل غاضب يوجه بندقيته الآلية في وجه الأبرياء في المدارس والجماعات ودور السينما ، يبدأ الجميع بالحديث عن الدوافع والظروف المحيطة بالحادثة، ثم تصدر بعض المقالات والتقارير التلفزيونية لتخمد القصة كلها خلال أيام قليلة، لكن الأيام الأخيرة التي عاشتها مدينة سان بيرناندينو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية حملت سابقة تستحق التوقف عندها قليلاً.

أوقع إطلاق النار الأخير في تلك المدينة 14 قتيلاً وعدداً من الجرحى، وسرعان ما بدأت الشاشات التلفزيونية طقوسها التقليدية في استضافة المحللين واستطلاع الآراء، تقاطر رجال السياسة والإعلام للتنديد والبحث في ملابسات القضية، وغصت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات من الجميع دون استثناء، لكن صحيفة «ديلي نيوز» الصادرة من نيويورك سرقت الأضواء بعنوان صادم وغير معهود شغل الصفحة الأولى وبالخط العريض: «الله غير مسؤول عن إصلاح ما جرى»، تذيله مقتطفات التقطت من حسابات العديد من السياسيين الأمريكيين على مواقع تويتر تحوي دعوات لـ«الصلاة» على أرواح الضحايا و«ابتهالات» تبتغي أن تزول تلك الغمامة عن البلاد، في إشارة واضحة للحنق المتصاعد بعد أن ضاق الكثير من الأمريكيين ذرعاً بمراوغة أولئك السياسيين بالموضوع المتعلق بوضع حد لتلك القوانين التي تسمح بانتشار السلاح في أيدي العامة تحت حجة الدفاع عن النفس، والتي ساهمت في ارتفاع عدد تلك الحوادث في السنين الأخيرة إلى حد لا تنفع معه «الصلوات» شيئاً. 

الدماء لم تجف بعد! 

يظهر في الصفحة الأولى تعليق للمرشح الرئاسي الأمريكي «تيد كروز»، الداعم الأبرز لـ«حقوق الأمريكيين في حمل السلاح» على حد تعبيره، يقول «تيد» بأنه تألم كثيراً لما جرى فآثر «الصلاة» لأرواح الضحايا وحيا جهود رجال الشرطة على استجابتهم السريعة. يبدو ذلك التعاطف الباهت مثيراً للاشمئزاز حين نعلم بأن الشخص ذاته ارتاد في اليوم التالي معرضاً كبيراً للأسلحة والذخائر في ولايته الأم، وظهر أمام العدسات وهو يلوح بإحدى البنادق مبتسماً دون أي اعتبار للدماء التي لم تجف بعد.

لا يستطيع «تيد» إلغاء زيارته تلك على الإطلاق، سيخسر عندها وعلى الفور الأموال الهائلة التي وضعتها شركات السلاح في خدمة حملته الانتخابية، الأموال التي وزعت بحصص مختلفة على معظم المرشحين الأمريكيين لمنصب الرئاسة في العام القادم، لكن هوس «تيد» ساعده على «التهام» الحصة الأكبر منها. وبالمناسبة، قام هذا الرجل بتصوير إعلانه الانتخابي وهو يطلق النار من بندقيته الآلية بعد أن ألصق بالقرب من فوهتها قطعة من اللحم المقدد، فقد وضع البندقية جانباً بعد أن فرغ من إطلاق رصاصه ثم التقط قطعة اللحم الساخنة التي ساهمت حرارة السبطانة في «طهوها» وأخذ ينهش منها بكل لذة!

«تضمن سلامتك وسلامة عائلتك»..!

تشير الإحصائيات الأخيرة أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك حوالي ال 300 ميلون قطعة سلاح في الأسواق المحلية، بمعنى يستطيع كل رجل وامرأة وطفل وعجوز هناك امتلاك قطعة سلاح دون أن تفرغ الأسواق منها.

 كما تشير الإحصائيات ذاتها إلى أن متوسط عدد الأسلحة التي يمتلكها المواطن الأمريكي الواحد يصل إلى خمسة، كما يمتلك ثلاثة بالمائة من مالكي السلاح الأمريكيين خمسة وعشرين قطعة سلاح في خزائنهم أي أن 31 بالمائة من البيوت الأمريكية تمتلك على الأقل سلاحاً واحداً داخلها، هناك هوس دائم باقتناء السلاح تغذيه الإعلانات اليومية والأنباء التلفزيونية التي تستمر بالحديث عن حالات القتل والسرقة والاعتداء والعنف المتزايد. ثم تشير إلى أن اقتناء المزيد من الأسلحة سوف يؤمن الحماية التي «تضمن سلامتك وسلامة عائلتك» كما تقول إحدى تلك الإعلانات.

من عالم آخر!

يأتي كل هذا تزامناً مع إعلان  «جيف بوكانان» مدير شركة صناعة الأسلحة «سميث أند وينستون» الأمريكية الشهيرة عن ارتفاع نسب الشراء بعد حوادث القتل العشوائي تلك وليس انخفاضها كما يتوقع البعض، وأخذ يعرض في حديث مغلق أمام مجموعة من المستثمرين –سرّب موقع «ذا انترسبت» الإخباري بعضاً منه - مجموعة من الرسوم التوضيحية التي أظهرها تداول الأسهم في «وول ستريت» تظهر فيها نقطة بيانية مرتفعة للغاية تشغل الأسبوع الذي صادف حادثة «سان بيرناندينو» الأخيرة تبدو وكأنها في عالم آخر بالمقارنة مع نسب الشراء خلال الأيام «العادية» الأخرى.

رصاصات الصحافة الخجولة!

تحمل ردة الفعل الإعلامية الأخيرة بعض التغيير، وربما تستخدم هذه المرة لغة أشد حدة مما اعتاد عليه الجميع هناك، لكن ذلك لن يغير شيئاً على الإطلاق ما دام الرصاص الهادر في الشارع يضع المزيد من الأموال في جيوب تلك الشركات العملاقة.

كما لن يستطيع أحد التحدث عن تلك المجمعات العسكرية الكبرى التي تصدر السلاح كل يوم إلى مناطق التوتر الأخرى حول العالم، بغية إذكاء نار الصراع وكسب المزيد من النفوذ السياسي، لن تستطيع تلك «الرصاصات» الصحفية الخجولة الوقوف في وجه «المدافع» التي تمتلكها شركات السلاح الكبرى وأدواتها السياسية التي تعيش على إعاناتها المالية، لك أن تختار إذا بين «الصلاة» على أرواح الأبرياء و«الدعاء» لغد أفضل، أو اقتناء قطعة مميزة من السلاح تؤمن لك الأمان الذي تحلم به وتبعد عنك الأشرار المجانين الذي يتربصون بك عند أول منعطف..