السخرية ترمي القفاز في وجه (الرسميين)!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

السخرية ترمي القفاز في وجه (الرسميين)!

السخرية هي ذاك الأسلوب من التهكم على واقعة أو حادثة، أليمة أو سيئة أو مزعجة، بإظهار ضدها المضحك غالباً، وهي مرتبطة بالمحادثات اليومية، والمصنف منها الفكاهة والنكتة والطرفة والهزل، كما لا يتوفر للجميع أن يكونوا ساخرين، حيث أن امتلاك تلك الموهبة، التي باتت فناً بذاته لاحقاً، يتطلب من محدثها أن يكون ذكياً حاضر البديهة مع سعة في المستوى الثقافي، إضافة إلى بعد إنساني وعمق وجداني، وذلك أن السخرية من أدواتها الخلط بين الجد والهزل، في تناول الهم والألم.

والسخرية في الأدب؛ هي ذاك الفن الذي يسعى إلى إظهار الألم والحزن الدفينين مع محاولة إشفاء الكرب المصاحب لهما عبر أدوات السخرية اللاذعة، وهو بذلك يمكن أن يطال جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة، الفردية منها والجماعية، بمظاهرها وظواهرها المختلفة والمتغيرة باستمرار، ومن الألوان المألوفة للسخرية الأدبية (الهجاء والمجون والتهكم والفكاهة والنكتة والهزل وغيرها).

كما ويعتبر الأدب الساخر من فنون الكتابة الصعبة، وذلك كما سلف القول لما يجب أن يتميز به الأديب من سمات شخصية أولاً، وثانياً لما يجب أن يتوفر في العمل الأدبي من وسائل وأساليب التلاعب الفنية، سواءً للفكرة المطروحة، أو للمكان أو للأفراد، كالتلاعب بوصف الأفراد أو الأشياء وبالمقاييس والأطوال، والتضخيم والتقزيم، وغيرها العديد من وسائل التلاعب الفني، كل ذلك من أجل التمكن من عكس آلام وأوجاع الناس بقالب كوميدي مع زرع البسمة والأمل.

على ذلك فإن الأدب الساخر يختلف من عصر إلى آخر ومن مكان إلى آخر، وبالتالي تختلف وسائله وأساليبه، كما يختلف أساساً من كاتب إلى آخر، ارتباطاً بالواقع والسمات الشخصية.

والكاتب الساخر هو ذاك القادر على تحويل الألم إلى بسمة، والحزن إلى إبداع، وهو بذلك لا يستعمل وسائله وأساليبه من أجل الإضحاك للإضحاك، فهو مهموم ومتألم وحزين، ولكنه يمتلك تلك القدرة على التحويل، وعلى ذلك فإن السخرية بالنسبة إليه ليست غاية بذاتها، بل وسيلة وأداة فقط، فالألم والحزن هو الدافع الأساسي خلف الكتابات الساخرة.

والأرشيف التاريخي للمجتمعات يزخر بأسماء الكثيرين من الساخرين والمتندرين، كما ويزخر بالعديد من كتاب الأدب الساخر، ولعل أسماء مثل (جحا وأشعب)، التي تم تداول وتوارث حكاياهم ومواقفهم في مجتمعنا على المستوى الشعبي، وبسماتهم الشخصية ومواقفهم الساخرة، نجد مثيلاتها عند شعوب ومجتمعات أخرى ولكن بأسماء أخرى.

كما لدينا في التراث قصص مثل (كليلة ودمنة والبخلاء وأخبار الحمقى والمقامات، وغيرها الكثير)، وهي من تراث الأدب الساخر الموروث، والذي مازال يفعل فعله في زرع الابتسامة والإضحاك، على مضامين سوداوية بإسقاطاتها على واقعنا المعاصر.

ما يشير إلى أن محاكاة الألم والحزن الإنسانيين ونقدهما الساخر واللاذع عبر أسلوب الأدب الساخر وغاياته، قادرة على تجاوز الزمان والمكان أحياناً، وذلك ارتباطاً كما أسلفنا القول بالسمات التي يمتلكها الكاتب، وخاصة ناحية البعد الإنساني والعمق الوجداني، الذي يجعل منه قريباً وملاصقاً لهموم وأوجاع وآلام مجتمعه، وقادراً على عكسها بصدق.

لعل ما يعطي السخرية قوتها وقدرتها العالية على التأثير هو انقطاعها أو تضادها مع اللغة الرسمية الجافة والجادة، والتي تنتمي في العقل الجمعي، إلى الدولة وإلى السلطة، في حين تنتمي اللغة الشعبية إلى الناس، والسخرية هي الأخرى تنتمي تالياً إلى الناس بوجودهم غير الرسمي، بوجودهم الطبيعي.

يمكننا أن نلحظ قدر السخرية العالية التي تتسم بها (اللغة العادية)، لغة الناس، بمجرد التنقل على صفحات التواصل الاجتماعي التي تزخر بالسخرية، إلى الحد الذي تبدو فيه صفحات الفايسبوك مثلاً صفحات للسخرية أكثر من أي شيء آخر، وإلى الحد الذي يظهر فيه تنافس مستمر بين رواد الفايسبوك على تصنيع السخرية.

ولأن للسخرية هذه القوة وهذا التأثير، فإنّها تحولت كغيرها من الأدوات والأشكال الفنية، إلى أداة من أدوات الصراع الاجتماعي، وفي ذلك أمثلة كثيرة، من واقعنا القريب نجد زياد الرحباني وعزيز نيسين وغيرهم، مدرسة في السخرية الهادفة التي تلتزم صف المظلومين، ونجد على الضفة الأخرى مدارس استخدمت السخرية أداة لتمرير مفاهيمها وأهدافها ومن ذلك مسلسلات من نمط فريندز وسيمبسون وغيرها.

وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين السخرية المبنية على فكرة والتي يصطلح على تسميتها (كوميديا الموقف) بمقابل كوميديا التهريج، التي تشكل انحطاطاً عن الأولى يستخدم النكتة المجانية ويصنع الضحكة دونما هدف حقيقي يلامس دواخل البشر وهمومهم..

السخرية الهادفة لا تقف عند حدود الأدب، بل تستخدم في مختلف الأشكال الفنية، وتسمح لهذه الأشكال برمي القفاز في وجه أصحابه، لا لتشعل حروباً تقتل البشر وتزيد همومهم، بل لتشعل أفكار التغيير في رؤوسهم ولتلهمهم الطريق إلى الأسئلة الكبرى العميقة..