إنه الشتاء

إنه الشتاء

«إنه الشتاء». تقول ذلك قطرات المطر  الأولى التي بللت أرض الشرفة والشباك ونبتة الغاردينيا عند باب البيت. بالرغم من أن الخريف منحنا وقتاً كي نستعد، وبالرغم من أن الشتاء يأتي دائماً في الموعد نفسه. أشعر هذا العام بأنه باغتني. وأنا أكره المفاجآت. 

«إنه الشتاء» يقول ذلك الهواء الذي غدا بارداً الآن، وسيصبح بمرور الأيام أبرد ثم أبرد.. أشعر أن لا طاقة لي على التفكير في تلك الحروب اليومية الصغيرة كلها التي سنخوضها دون كهرباء، متجولين في الظلام ونحن نلتف ببطانياتنا. تلك الحروب مع الأسقف التي ترشح، وبحيرات الماء التي تغيّر مواقعها داخل غرف منازلنا.. 

«إنه الشتاء». أفكر فيما يمكن أن أرتدي هذا الفصل كي أشعر بالقليل من الدفء. تدفّأت الشتاء الماضي بالأغاني، فكما أن للصباح موسيقاه وللمساء وقعه الخاص. هناك موسيقى لكل فصل. «الجحيم في الأعلى والجنة في الأسفل.. اختفت الأشجار كلها.. المطر يصدر صوتاً جميلاً لهؤلاء المدفونين ستة أقدامٍ تحت الأرض» يقول «توم ويتس» بصوته الخشن، الذي يذكرني بصوت من يجرف ثلجاً، أتساءل إن كانت موسيقانا تصل إلى مسامع المدفونين تحت الأرض. أسمع تسجيلات «نيك دريك». المغني البريطاني الذي لم يصب كثيراً من الشهرة ومات منتحراً، أتخيل كيف كان يبدو  الشتاء له من شباك غرفته، وهو ينصَبّ على تأليف موسيقى ستدفئ أجيالاً بعده. 

كي أستعدّ للشتاء سأشتري الكثير من أعواد القرفة، وأكباش القرنفل من سوق البزورية، لأجل أكواب الشاي الساخن التي ستحضّر تباعاً وطوال الوقت. سأخرج أوشحتي فأغسلها وربما سأشتري المزيد.. بعد ذلك سأمد على أرضية غرفتي البساط الخمري المنقوش، أهدتني إياه أمي، وهو يعود لجدتي.. ربما يكون البساط أجمل مقتنياتي الشتائية. لكن الأرض ستبقى باردة، وسأمشي كما في كل شتاءٍ على أطراف أصابعي قبل أن أندس في السرير.

«إنه الشتاء!» كان اسماً لفيلمٍ إيراني نال جائزةً في مهرجان السينما في دمشق قبل عدة سنوات. كان فيلماً طويلاً بطيئاً ودون أحداثٍ مفاجئة.. أخي أغفا على الكرسيّ في السينما، واستيقظ ليجد أن كل شيء تغير، وأن بطل الفيلم فقد يده. أضاع حبكة الفيلم، ولم يفهم سبب التصفيق الكثيف الذي ملأ القاعة بالضجيج. «إنه الشتاء»  اليوم أيضاً، لكن شتان ما بين هذا الشتاء وذاك.

الشتاء هنا ليس واحداً في كل مكان، يختلف باختلاف الشارع الذي يرتديه. هو يليق بحارات بعينها كأبي رمانة وساحة الروضة والقصور.. يغسلها ويجعلها أكثر بريقاً، لكنه يتحوّل إلى طينٍ وبحيرات ماء عكر في شوارع وأحياء الفقراء، يزيد المشهد بؤساً، ويعرّي الحقائق والتناقضات. 

أشتاق لفصولٍ لا تثقلها الأزمات وشتى بواعث القلق. فصولاً كتلك التي كانت تُرسم على البطاقات البريدية. يكون فيها الخريف أوراق أشجارٍ ملونة بالأصفر والبرتقالي، تتساقط بمرحٍ عن غصون الأشجار. ويكون فيها الشتاء ملوناً بالأزرق والأبيض، مع الكثير من الشمسيات الملونة، والقفّازات ورجال ثلجٍ بأنوفٍ جزرية.. 

آخر تعديل على الأحد, 18 تشرين1/أكتوير 2015 00:20